زمن رأس المال

16 اغسطس 2024

(Getty)

+ الخط -

مرَّت عليَّ، في قراءتي آراءً في غير موقعٍ، معلومةٌ تفيد بأنّ كُبرى الجامعات في بعض دول العالم المُتقدّم تفرض دراسةَ الفلسفةِ سنةً على طلّابها، وهي السنة الأولى التحضيرية في الكُلّيات المُختلفة، مهما كان نوع الاختصاص الذي قرَّر الطالب دراسته لاحقاً، بهدف تدريب الطلَّاب على تطوير الفكر النقدي لديهم، وتعليمهم آليات التفكير العميق، وتحليل المفاهيم والفِكَرِ التي ستصادفهم في حياتهم العملية.

كما أنّ دراسة الفلسفة، حسب ما تراه تلك الجامعات، تساعد خرّيجها في تمثُّل القيم والأخلاق والمبادئ، وفي الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية في الاختبارات الحياتية والمعيشية والعملية والوظيفية، حين ينطلقون في حياتهم العملية بعد التخرّج. كما أنّ دراسةَ الفلسفةِ تجعلهم قادرين على التفكير خارج الصندوق، إذ يُخضِعون كلَّ معضلةٍ تصادفهم للتحليل المنطقي والأخلاقي قبل حلّها. تعتبر تلك الجامعات أنّ واجبها أن تُقدّم لمجتمعاتها أجيالاً من الخرّيجين الجامعيين لديهم المؤهلات كلّها، التي تجعلهم يساهمون في نهضةٍ مضافةٍ لتلك المجتمعات، وللإنسانية، وللبشرية. فالقصد ليس الراهن فقط، بل هو المستقبل الذي سوف تأتي إليه أجيال جديدة من حقّها أن تعيشَ في مجتمعاتٍ مُحصَّنةٍ أخلاقياً وبيئياً وعلمياً وصحّياً.

طبعاً، سوف ترحّب تلك الجامعات بمن يختار الفلسفَة دراسةً أكاديميةً، وسوف تفتخر أن يكون بين خرّيجيها فلاسفةٌ معروفون، ذلك أنّه حسب ابن خلدون "يساهم الفلاسفة في تطوير الثقافة والمعرفة من خلال دراسة العلوم والفلسفة ويُؤثّرون في المجتمع بقدرتهم على توجيه الأفراد وتحفيزهم على التفكير العميق والنقاش الفكري". كما أنّ الفيلسوف قادرٌ على توجيه المجتمع والأفراد نحو استقلالية القرار، والقدرة على تحمّل مسؤوليته، ونتائجه، وعواقبه.

لا يختلف الأمر كثيراً في دراسة الآداب والفنون واللغات الأخرى، فدراسة الأدب (بعيداً عن الشغف به) تساعد في تطوير مهارات التعبير والحوار، وفي تطوير مهارات اللغة نفسها وملاءمتها مع التطوُّرات التقنية المُتسارِعة، كما أنّ للأدب والفنّ دوراً كبيراً في فهم الحياة التي يعيشها البشر، فيمكّنان من معرفة خُلاصةِ تجارب الآخرين وخبراتهم، ويساعدان في فهم المشاعر والأحاسيس التي تسبق (أو تترافق مع) التجارب الإنسانية الفردية والعامة، التي تُشكّل لبنةً أساسيةً في نشوء الحضارات الإنسانية وبنائها. أمّا الدور الأكثر أهمّية للأدب، وللفنّ، في المجتمعات، فهو تعزيز مفهوم الابتكار والإبداع والخلق، وتعزيز قيمة الجمال وتكريسها مبدأً عامّاً في الحياتين الشخصية والعامة. أمّا دراسة اللغات الأخرى فليست للمنافسة في سوق العمل فقط، بل لأنّ في دراستها فهماً لطبيعة المجتمعات التي سبقت غيرها في التطوّر والحضارة والعمق الإنساني. فاللغة هي الحامل الأول للحضارات البشرية كلّها، ومعرفتها في سياقاتها التاريخية سبرٌ لأغوار الذهنية التي تمكَّنت من التطوّر والتقدّم. اللغةُ ليست أداةَ تواصل يومي، اللغةُ هي الحامل الأساس للتاريخ البشري بحضاراته كلّها، وإتقانها لا يخدم الفرد فرداً فقط، بل يخدمه في الإطار الجمعي المجتمعي والإنساني العام أيضاً.

لا يختلف الأمر كثيراً في دراسات واختصاصات أخرى، مثل التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، فمعرفة الماضي الجمعي وفهمه واكتشاف أخطائه، وفهم البيئة الجغرافية والطبيعية للمجتمعات الصغيرة والكبيرة وللعوامل المؤثرة فيها، كلّها تُؤثّر في عملية البناء الحضاري والعمراني، وفي تحقيق التنمية المُستدامة، وبناء مجتمعات تُقدّر التنوُّعَ العرقي والديني والثقافي، خصوصاً في مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية، التي شهدت حضاراتٍ قديمةً مذهلةً قائمةً على التنوُّع، لكنّها اليوم تعيش في أسوأ مراحلها وأكثرها انحداراً في المستويات كافّة.

مناسبة ما سبق كلّه كلام إعلامي مصري كان يتحدّث إلى المصريين قبل أيّام عن ضرورة إهمال تعليم الأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا واللغات، وضرورة السعي إلى إغلاق الكُلّيات التي تُدرّس هذه الاختصاصات، لأنّها لا تتناسب مع سوق العمل الجديد، ولا تنتج منها وظائفُ تحسّن الدخل وتجعل صاحبها ينافس في سوق الاستهلاك العالمي. ومن المدهش أنّ كلاماً كهذا يقال في بلد ما زالت حضاراته القديمة، التي قامت على تلازم المنطق والفلسفة والفنّ والعلم والجغرافيا والتنوع الثقافي، تُعلّم البشرية، وتجعلها في حالة تحفُّزٍ دائمٍ للإجابة عن أسئلةٍ مستحيلةٍ تُقدّمها الحضارة المصرية القديمة. لكنّ هذا الإعلامي هو ابن زمنه الراهن والآني الذي يُسفّه كلَّ قيمةٍ أخرى غير قيمة رأس المال.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.