المتواطئون ضد شعوبهم

16 يونيو 2014

Kerstin Waurick

+ الخط -
وصفت السياسة دائماً بأنها مهنة ذوي الياقات البيضاء، من الأرستقراط إلى البرجوازيين، ومن العائلات المالكة إلى النخب الاقتصادية أو الثقافية، مع استثناءات قليلةٍ، حاولت فيها البروليتاريا كسر تلك السيطرة الفوقية. وعلى مر التاريخ، لم تخلُ السياسة من اقتحامات العسكرتاريا والتكنوقراط والأوتوقراطيين. لكن، في كل الأوقات، كان دور هؤلاء يقف عند الوصول إلى الحكم، أو القفز إلى السلطة. بينما ظلت ممارسات إدارة الدولة وتحديد وجهاتها، أو ما يعرف بامتهان السياسة، مقصوراً على تلك النخب المستعدة للتحالف مع من يحكم، أياً كان. إذ تتعيش من ذلك الدور الوظيفي المهم في سياقه المؤسسي، داخل منظومة الحكم، الطفيلي في جوهره ومدلولاته الاجتماعية والإنسانية. حتى الشعوب المتقدمة التي تبدو محصنة ضد ثنائية القبعة والعمامة، يدرك المواطن فيها أن دوره اختيار من يسير الدولة في وقت محدد، ثم محاسبته لاحقاً في توقيت آخر، ولا يتدخل بينهما إلا من خلال ممثليه، وقنوات تواصل مستقرة.
الأمر في بلداننا مختلف كلياً؛ فالشعب الذي هو موضوع ونطاق "السياسة" نادراً ما يمارس ذلك الحق في اختيار من يحكمه. والحديث، هنا، عن اختيار حقيقي حر وواعٍ، وليس مجرد آليات ومظاهر المشاركة، أو تحريك حشود لتحضر وهي مُغيبة. تلك الهوة العميقة بين الاختيار والمحاسبة، في مقابل عدم الاختيار وغض الطرف؛ هي التي تحاول الجماهير، من حين إلى آخر، عبورها. ولا بد هنا من تذكر أن السكوت زمناً، ثم الانتفاض رفضاً، لا يُعزى، بالضرورة، إلى رفض الشعوب ذلك الوضع المختل وانفراد النخب وأصحاب الياقات البيضاء بالسياسة والحكم. فالحاصل أن شعوباً كثيرة لا تشارك في حكمها، لا بالاختيار ولا بالمحاسبة، لكنها راضية مَرضية. إذ الساسة يحسنون ممارسة السياسة، والحكام ينزلون عند مطالب الناس وحاجاتهم، بل وأحلامهم أيضاً.
المشكلة، إذاً، ليست في أن يتدخل كل مواطن، بشكل مباشر، في إدارة الدولة، وإنما في كفاءة وإخلاص من يتولى تلك المهمة، والذي يفترض أنه موكل بها، نيابة عن عموم الناس، وليس تفضلاً منه عليهم، ولا بحكم التاريخ، أو حتمية قدرية. وهذا ما لم يدركه لا الحكام، ولا النخب ذات الياقات البيضاء، في دول الربيع العربي. لذا، كانت الثورات والاحتجاجات الشعبية، في مدلولها الأعمق، رفضاً عملياً لاستمرار هؤلاء في الانفراد بالسلطة، على الرغم من الفشل المستمر بل المتزايد. بدليل أن الفئات التي دشنت تلك الاحتجاجات ليست ضمن الغالبية التي تعاني العوز الاقتصادي والتدني الاجتماعي.
وللأسف، لم يقتصر ذلك "العمى السياسي" على الحكام وساستهم، بل طال، أيضاً، قوى المعارضة، أو التي يفترض أنها معارضة. فقد أهدرت تلك المعارضات العربية فرصة تاريخية، ليس لتمارس الحقيقة وحسب، بل لتتصدر المشهد، وتقود قاطرة التغيير، وتلعب دور الراعي، بل المنقذ للشعوب من إحباطها وخذلان حكامها. ففضلاً عن حالة الذهول والشلل أمام تداعي الثورات، لم تكن المعارضات العربية المرفهة على مستوى الحدث طوال أربع سنوات، كان يفترض الانتقال خلالها من الفعل الثوري إلى العمل السياسي.
وبدلاً من التقدم لإدارة تلك المرحلة الانتقالية، إذا بالنخب والساسة في أماكنهم وعلى مواقفهم القديمة. بل بدا واضحاً أن تلك المعارضات، ورعاتها من الحكام، تواطأوا معاً ضد ثورات شعوبهم، كأن الأمر توزيع مغانم وأدوار، ليس للشعوب فيها نصيب. لذا، ليس مستغرباً أن يستمر الحراك الشعبي، سواء في الدول التي عادت فيها النظم السابقة، أو التي لا تزال تترنح ثوراتها، فقد أسقطت الشعوب النخب من حساباتها، وبصقت على كل الياقات البيضاء، والغريب أن الساسة والنخب، حكاماً ومعارضة، يدركون ذلك جيداً، والأغرب أن هذا بذاته يدفعهم إلى مزيد من التواطؤ والارتباط العضوي في مواجهة شعوبهم، إذ بات مصيرهم واحداً، ويتعيشون كلٌ بوجود الآخر.   


 

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.