الثورة التونسية أمام اختبار عسير

03 نوفمبر 2014

تونسيون يتظاهرون للحفاظ على مسار الثورة الديمقراطيّ (14فبراير/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -

تضعنا الثورة التونسية، منذ انطلاقها، أمام أعسر الاختبارات وأقساها، وتضيف على ذلك جملة مفارقات على غرار: ثورة شعبية بلا زعامات، شيوخ طاعنون في السن يقودون ثورة شباب إلخ. وها هي الانتخابات الأخيرة تضعنا أمام امتحان آخر صعب وعسير، لا يقل غرابة عما سبقه.  فـ "الشعب يريد" هذه المرّة، لكنه يريد أن يؤمن قيادة مرحلة الانتقال الديمقراطي لدى حزب نداء تونس؟

بعيداً عن دحض مدى ارتباط هذا الحزب بالنظام القديم أو إثباته، فإننا باختيار الناخبين له   نكون قد مررنا بلحظة فارقةٍ في هذا المسار ستحدد مستقبل البلاد، وربما مستقبل غيرها. حدث، في حالات عديدة من تجارب الانتقال الديمقراطي، أن يدمج النظام القديم في ذلك المسار، وخصوصاً أكثر أجنحته تنوراً وتحرراً، ويحدث، في حالات أخرى أيضاً، أن تقود تلك الأجنحة ومن يحالفها من قوى ونخب مرحلة الانتقال الديمقراطي، أو على الأقل بعض أشواطه. حدث ذلك في إسبانيا وفي جنوب أفريقيا، وغيرها من مناطق العالم التي شهدت مثل هذه التحولات العميقة في تاريخها السياسي. لا أحد ينكر ذلك، ولكن، لا أحد يتجاهل أن ذلك كان ضمن سياقات عديدة، أهم شروطها ما يبديه النظام، قبل اندلاع الثورات أو الأزمات، وحتى ما بعده من ردود أفعال داخله. 

لم يحدث شيء من هذا القبيل في الحالة التونسية، وظل النظام متحداً متضامناً إلى آخر لحظة من سقوطه، فلم نر وزيراً أو جامعياً أو إعلامياً أو رجل أعمال من تلك المنظومة، ينضم إلى صفوف الثورة، أو، على الأقل، يتبرأ مما حدث خلال ما يناهز ربع قرن. ربما حدث في الحالة التونسية ما هو أدهى، فرموز النظام عادت تتبجح بما اقترفته في حق التونسيين، ولم يصدر أيّ اعتذار ذي شأن. عاد النظام القديم، لكنه قسم المهام وأعاد هندسة بنيانه: تعدد حزبي من داخله، تغيير لمواقع النفوذ، استدراج نخب لضخ دماء جديدة تعوض ما فسد منها، جيل جديد من منظمات المجتمع المدني وقيادات ناشئة.

لسنا بصدد تحليل دلالات السلوك الانتخابي للتونسيين، أو محدداته، فتلك ورشة بكر للتحليل تستنهض همم الباحثين. ولكن، نريد فقط في هذا المقام فهم السياقات الموضوعية التي ساهمت في إملاء مثل هذه النتائج، فكأن هناك شعوراً بالملل من الثورة ينتاب أوساطاً عديدة من التونسيين. وبقطع النظر إن كان ذلك التصويت عقاباً يسلط على من قادوا فترة الانتقال الديمقراطي، بعد انتخابات المجلس التأسيسي 2011 أم لا، فإن ما حدث قد يفتح أفقاً جديداً  مغايراً لما انتهت إليه ثورات سابقة.

لا يمكن للثورة أن تدوم وكل الثورات التي تأبدت، أو سعت إلى ذلك، تحوّلت لا محالة إلى دكتاتوريات دموية. لن أسرد ما آلت إليه ثورات عديدة، بقطع النظر عن دقة التوصيف للثورات التي حدثت في العالم العربي، وهي، في الأصل، انقلابات عسكرية. ولكن، حتى لو سلمنا جدلاً بأنها كانت فعلاً كذلك لاستجاباتها لطموحات الشعوب، والتفاف الناس حولها آنذاك، فإن الرغبة المميتة في استدامتها والنفخ في روحها قد أدى إلى مسخها وتحولها دابة قاتلة. "الثورات العربية" التي قام بها ضباط جامحون لم تولد إلا العسف والكراهية والحقد، فانتهت إلى حروب أهلية شرسة، أحرقت الأخضر واليابس: العراق، اليمن، سورية، ليبيا، نماذج لما انتهت إليه تلك الثورات، وإن كان لكل منها حكايتها الخاصة التي تتقاطع مع أخواتها في منحدراتٍ رهيبةٍ.

عرف النصف الثاني من القرن العشرين ثورات من هذا القبيل. ولكن، سيكون من المهم، أيضاً، التذكير بما انتهت إليه ثورات بداية القرن العشرين، لعل أهمها الثورة البلشفية. يقدر مختصو الثورات ومؤرخوها عمر الثورة بعقدين، فهذا طور من العنفوان الواعد، تكيفه إرادة القوى المتصارعة والسياق الدولي العام، وما إن يستقر الأمر لصالح الثورة، حتى تتجه إما إلى طي ذاتها، أو تجديد محياها في ما يشبه "الليفتنغ"، لتدخل طوراً آخر، عادة ما يكون من الإكراه والقمع.

كم من ثورة خاطت كفنها، لأنها شاخت، ولم تعد قادرة على ممارسة الوصاية على مجتمعها. ينضج المجتمع فيفيض نشاطه وديناميكيته وابتكاره وتجديده السياسي والاجتماعي بما لا تستطع الثورة ملاحقته. عادة ما تصاب الثورات بأمراض الزهايمر والخرف وغيرهما من أمراض الشيخوخة. في حالات عديدة، يتجدد المجتمع ويبتكر ثورته الصامتة الداخلية بلا ضجيج، ولا صخب، فتغدو الثورة السياسية تلك مثيرة للشفقة، مجرد نوستالجيا يشدنا إليها الحنين من حين إلى آخر.  وتتحلل الثورات لأن لها أجل. فإما إلى ديمقراطيات ناشئة ومتعثرة، أو إلى دكتاتورات أنكى.  ولكن، يتم، في أحيانٍ كثيرة، إيجاد تحديات وهمية ومؤامرات واصطناع أعداء لمجرد استدامة الثورة التي تتخذ من الحريات المداسة والأبدان المفرومة وقودها.

في تونس، نشهد ثورة فريدة تأكل زمنها بنهم وشراهة، فتشيخ قبل أوانها. ربما هرمنا من أجل لحظة تتهرم بدورها في لمح البصر.  يلقي علينا هذا التهرّم السريع للثورة التونسية كثيراً من الدوار والدهشة. سرعة سقوط النظام كانت بالوتيرة نفسها من سرعة الملل منها، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى.

تنام الثورة مهدودة في أحضان هرمة، ولن تتجدد دماء أحد منهما، إلا بما يمتص من الآخر.  ينفتح الباب على احتمالين، لا ثالث لهما: عبور إلى ديموقراطية راسخة، أو عودة إلى ديكتاتورية مرعبة. هناك من يحلم بثورة ثانية، غير أن الشعوب لا تثور مرتين، وإذا حدث ذلك، فإحداهما زائفة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.