هل الإسلامي الجيد المعارض فقط؟

01 نوفمبر 2014
+ الخط -

طوال العقد الماضي تقريباً، أو ربما يزيد، كنا نقول إن تيارات اليسار العربي والقوميين، والقوى المحافظة، والمتلونين، وحتى المتحولين والعملاء، ومن لا يُعرف تصنيفهم، أخذوا فرصتهم في "تجريب" رؤاهم واجتهاداتهم، في النهوض بأمة العرب، وكانت الحصيلة لا تسر، فقد فشل كل هؤلاء في أن يكونوا على سوية قريبة مع من بدأوا نهضتهم بالتزامن، كاليابان والهند، ودول النمور الآسيوية، وسواها، ممن استطاعوا، ابتداء من حقبة الاستقلالات العربية، أن يحققوا ما عجز عنه العرب الذين سجلوا سلسلة متوالية من فصول الفشل، حتى جاءت حقبة الربيع العربي، وهو ربيع فعلي، رغماً عن كل ما قيل وما سيقال عنه، لسبب بسيط جداً، فهو الذي أعاد الثقة إلى المواطن البسيط، وعلّمه أن في وسعه أن يكون ذا تأثير في صناعة مستقبله، دافناً إلى الأبد جملة مقولات انهزامية، من قبيل: وأنا مالي، وشو ممكن أعمل، وحط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس، وغيرها من الأوهام. 

وجاءت حقبة الربيع بالإسلاميين في غير موقع، وبدأ ما يشبه الفصل الجديد من التاريخ العربي، وقيل: جربتم كل ألوان الطيف السياسي، فلم لا تجربون الإسلاميين؟ وفي هذا قدر كبير من المعقولية، على الرغم من المخاوف الكامنة في نفوس كثيرين من بعض عقليات تحكم التيار الإسلامي، وثمة فئة أو أكثر لم تقف على الحياد، فأشرعت مدافعها قصفاً ومقاومةً لرجالات هذا التيار، وحاولت بكل السبل، ولم تزل/ النيل من التجربة الجديدة وإفشالها، وتحالفت مع شياطين الأرض، لإجهاض التجربة، حتى قبل أن تبدأ، وهذا طبيعي، فلم تكن طريق الأنبياء والرسل والمصلحين معبدة بالورود، فكيف برجال سياسة وحكم، يحملون رؤية إسلامية، ولهم اجتهاداتهم، المثيرة للجدل أحياناً، إن لم يكن في غالب الأحيان؟

في المحصلة، تبوأ إسلاميون سدة الحكم في غير بلد عربي، وبدأوا إنزال رؤاهم النظرية في الحكم التي وعدوا بها الشعوب منذ عقود، على أرض الواقع، فكانت النتيجة، أو على الأقل، مؤشراتها الأولى، كارثية، إن لم نقل إنها غير موفقة، من دون النظر طبعاً إلى أي معوقات، مصطنعة أو طبيعية، وقفت في طريقهم، لأن على من يتصدى لحمل ملف الحكم، أن يعرف حجم العقبات التي ستعترضه، وبالتالي، يفترض أن لديه الخطط لمواجهتها. أما "الأخوة" في التيار الإسلامي، وتحديداً الإخوان المسلمين، فبدا أنهم أتقنوا لعب دور "المعارضة" جيداً طوال سنين خلت، حتى إذا انتقلوا إلى كرسي الحكم، بدا عليهم الارتباك والاضطراب والخوف، فضلاً عن عدم قدرتهم على استيعاب الآخرين والعمل معهم، واستمالة الخصوم واستيعابهم، حيث ظل هؤلاء في نظر الإسلاميين مناقضين للتنظيم، ولم يدركوا أنهم شركاء في الوطن!

لن نتسرع، الآن، ونقول إننا بدأنا نعيش مرحلة "ما بعد الإسلاميين"، لأن ثمة متسعاً من الوقت لتدارك الأخطاء الفاحشة التي وقع بها هؤلاء، وإن بدا أن فرصة التغيير تضيق أكثر فأكثر. الإسلاميون الآن بحاجة لخطواتٍ ثورية لإعادة الألق إلى التجربة الجديدة، وإنقاذ المشروع النهضوي الإسلامي الذي تعلقت به قلوب الملايين، من مسلمين وإسلاميين وغيرهم، علماً أن ثمن فشل تجربتهم باهظ جداً، فقد قالها لي عربي يساري مسيحي علق آمالاً كبيرة على نجاح التجربة: إن لم ينجح هؤلاء بعد طول انتظار، فما البديل؟

وهنا، نتوقف، قليلاً، أمام سؤال يدور في أذهان من يهتم بالمشروع النهضوي العربي، وفي قلبه هؤلاء "الإسلاميون"، وخصوصاً من يمثلون، على نحو أو آخر، ما يسمى الإسلام السياسي، وهم جماعة الإخوان المسلمين، ما الذي يحتاجونه، في هذه المرحلة بالذات، بعد تجربتين عاصفتين، مروا بهما في مصر وتونس؟

إن كل حركات الانشقاق التي نأت بنفسها عن جماعة الإخوان المسلمين كان مصيرها الانزواء والفشل وذهاب الريح، وحتى حزب التحرير الذي كان أحد أشهر الانشقاقات وأكبرها، لم يحظ بما حظيت به الجماعة الأم من تأثير وأهمية على الساحة، بل إن الحركات الصغيرة، جهادية مقاتلة أم دعوية إصلاحية، لم تستطع أن تنافس حضور "الإخوان" وتأثيرهم على المستوى الدولي، وثبت أن من "يناطح" هذه الجماعة كالثور الذي يناطح حائط إسمنت، فقد تمرست، على ما يبدو، في مواجهة حملات الاقتلاع والتهميش والقمع، وبنت "أدبيات" متوارثة منذ أجيال في مواجهة "الابتلاءات" والمحن، تستدعيها حينما يقتضي الأمر، وقد ذهب كل من وقف في طريق الجماعة، وناصبها العداء، وبقيت حاضرة بقوة، في بلد "المولد" وفي غيرها من الساحات، على اختلافٍ في حجم الحضور، إذ لدى الجماعة ديناميكية كبيرة على التكيف مع مختلف الظروف، سواء تحت الأرض أو فوقها، أو بين بين!

قد تنجح حركات الانشقاق في خلخلة قناعات بعضهم بالجماعة، وقد تشجع المتأرجحين على الهروب بعيداً، ولكن الجماعة بقيت مستعصية على التشظي، وقد أدرك هذا الأمر كثيرون من منتسبيها، فآثروا البقاء "داخل الصف" ومحاولة التغيير من داخل البيت، والحقيقة أنهم لم ينجحوا كثيراً في هذا المسعى، وإن تجنبوا ما يمكن أن يلحق بهم هم من آثار سلبية، نتيجة خروجهم من الصف.

عملية "أخونة الإخوان" إن جاز التعبير لا يمكن أن تتم إلا من الداخل. وحتى الآن، تثبت الأحداث، ومسار تاريخها، أنها تفتقر إلى الآلية الفاعلية في إعادة إنتاج نفسها، وإعادة هيكلة التنظيم، وربما يعود هذا الأمر إلى كثرة المحن التي مرت بها الجماعة، وربما إلى ما هو أكثر من ذلك، فتعاقب السنين وطول الأمد، يبني على الأشياء طبقة من التكلس، تفقدها اللياقة والمرونة اللازمة، وتجعل من أي تغييرات جذرية في غاية الصعوبة.

ما تحتاجه الحركة الإسلامية، الآن، وفي قلبها الإخوان المسلمون، بعد كل ما مر بهم، نوع من التقويم العلمي البحت لمسيرتها، مع الاستعانة بأصحاب رؤية من خارج الصف، وباحثين محايدين ودارسين، لأن هذه الجماعة ليست ملكاً لمن يحمل بطاقة العضوية، فقد غدت جزءاً من تاريخ الأمة، وميراثها الدعوي والحضاري، وما تفعله في هذه الساحة أو تلك تمتد آثاره على كل الساحات، و"يدفع" ثمن أخطائها غيرها ممن لم ينتسبوا لها يوماً. ولهذا، صار لزاماً على حركة بهذا الحجم والتأثير أن تتخيّر مكان أقدامها، وتستبين مسيرها: من أين وإلى أين!

أما من ينشد "تغيير" الحركة بالانشقاق، والشغب عليها، فلا يخدم إلا من يسعى إلى شرذمة الجماعة، وإنهاكها، وإشغالها بمزيد من المحن، وكل هذا يعيق حركتها، ويتسبب بمزيد من المعاناة لها، وللأمة بأسرها، وبالتالي، يضع العقبات في طريق تحقيقها أي إنجاز، ما ينعكس سلباً وإيجاباً على مكونات المجتمع العربي كافة.