... وأصبح الحديث عن زوال إسرائيل عاديّاً
تذكّر التصريحات اللافتة للصحافي الأميركي توماس فريدمان بتصريحات تلتقي معها في نقطة مركزية خطيرة لمُؤسّس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين، رحمه الله. وتلك من مفارقاتٍ عجيبةٍ بتنا نشهدها بكثافة عقب زلزال "طوفان الأقصى"، الذي لم يكد يُبقي أيّاً من الثوابت التي كانت تحكم العالم، فكأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023) أشبه ما يكون بالحدث المِفْصَلي.
تنبأ ياسين، في لقاء مع قناة الجزيرة، بزوال كيان العدوّ الصهيوني في العام 2027، أي بعد نحو ثلاث سنوات. أمّا فريدمان فتنبّأ، في مقابلة بثّتها أيضاً قناة الجزيرة أخيراً بأنّ هذا العام سيشهد أحد احتمالين متوقّعَين: الأول، التوصّل إلى حلّ تقوم بموجبه دولة فلسطينية حقيقية إلى جانب كيان العدوّ، وهذا مُستبعد حسب قوله. والثاني، أن تقوم حرب شاملة مُدمّرة تُعيد الأوضاع في فلسطين إلى ما قبل 1948، أي قبل قيام الكيان. وبمعنى آخر؛ زوال دويلة الاحتلال. ويبدو أنّه يُرجّح الخيار الثاني، ومعروف أن فريدمان هذا مُقرّب كثيراً من الإدارة الأميركية. وبتعبير آخر؛ لا يتكلّم فريدمان من رأسه فقط، كما يقال، ففضلاً عن قربه من الإدارة الأميركية باعتباره قوّةً ناعمةً لهذه الإدارة، فهو "صديق حميم" للكيان، وتربطه علاقة وطيدة بنُخَبه ونظامه لا تقلّ "يهودية" عن يهودية وزير خارجة الإدارة الأميركية أنتوني بلينكن، ولا عن "صهيونية" بايدن التي يتباهى بها.
حتّى وقت قريب، كان الحديث عن بداية تفكّك الكيان ضرباً من الرجم بالغيب، المُستهجَن لدى كثيرين، وكان هذا الحديث حِكراً على الكُتّاب في علم المُستقبليّات وعلوم الجُمّل، والباحثين في نبوءات الكُتب المُقدّسة وغير المُقدّسة. أمّا اليوم، فالحديث، مثلاً، عن "الهزيمة الاستراتيجية" التي مني بها الكيان صار طبيعياً ويجري على لسان ساسة وخبراء عسكريين كبار، وهو تعبير قريب الشبه بما تحدّث به كل من أحمد ياسين وتوماس فريدمان، فإن لم تكن الهزيمة الاستراتيجية بداية تفكّك من مُنِيَ بها، فماذا تكون؟
الحديث عن زوال الكيان الصهيوني غدا ممكناً بعد "طوفان الأقصى"، وكان قبله ضرباً من الأماني
وقريب من هذا، بل في صلبه، جملة من التعبيرات والإشارات والتصريحات، التي تدور كلّها بشأن الهاوية التي بدأ ربابنة الكيان الانزلاق إليها. ولم يكن هذا ليكون حديثاً "عاديّاً" لولا الهزيمة العميقة التي أصابت الكيان على يد المقاومة الفلسطينية في غزّة، من تلك الوقائع مثلاً، ما كتبه الصحافي الإسرائيلي حاييم ليفنسون في منصّة إكس: "إسرائيل ستنهار عام 2029. بل قبل هذا العام.. سيغادر معظم السكان اليهود ولن يبقَ فيها إلا أقلّية حريدية يُقدّر عددها بـ25 ألفاً إلى جانب أكثرية عربية. وسيهرب نتنياهو وزوجته إلى ابنهما يائير في أميركا". وجاءت الردود من الإسرائيليين صادمة؛ "يا حاييم!.. 2029؟ أنت متفائل.. إذا استمر الأمر على هذا النحو، فإنّ عام 2027 يبدو أيضاً هدفاً غير واقعي.. نتنياهو سيهرب هو وزوجته في النهاية". هذه حقيقة وهي مسألة "متى" فقط، وليس "إذا". وقريبٌ من هذه الأجواء ما كتبه الصحافي البريطاني ديفيد هيرست في مقال مُطوّل في موقع "ميدل إيست آي" الإخباري بعنوان "هل تسير إسرائيل على خطى الصليبيين؟"، يقارن فيه بين حروب كيان الاحتلال على الشعب الفلسطيني وبين الحروب الصليبية ضدّ المسلمين، التي استمرّت نحو قرنَيْن، من عام 1099 حتّى 1291. وكتب هيرست إنّ إسرائيل "تثبت حقّاً، يوماً بعد يوم، أنّها أشبه بالمسيحيين الصليبيين، فهي لا تحذو حذوهم في حربها الدائمة فحسب، بل في التطلعات أيضاً". ويضيف أنّ "إسرائيل نزعت الشرعية" عن نفسها في نظر العالم بسبب تصرفاتها في غزّة الآن، وبات مصيرها شبيهاً بمصير الصليبيين أنفسهم. ليس بإلقائها في البحر، بالطبع، ولكن، بطريقة أو بأخرى يتمّ التغلّب عليها استراتيجياً/ عسكرياً/ دبلوماسيا، ووفق هيرست، فإنّ ما يسميه الباحث الإسرائيلي ديفيد أوحانا "القلق الصليبي" أو "الخوف المستتر الصادم" من أنّ المشروع الصهيوني قد ينتهي بالدمار، كما انتهى مشروع أسلافهم المسيحيين الصليبيين، بات مغروساً في نفوس الإسرائيليين، ولا نريد، هنا، أن نتطرّق بإسهاب لعقدة العقد الثامن، وما قيل وكتب فيها كثير. وترجع فكرة "لعنة العقد الثامن" إلى رواية يكاد يتّفق عليها المؤرخون الذين يتناولون تاريخ الوجود اليهودي السياسي في فلسطين، وهي أنّ اليهود، عموماً، أقاموا لأنفسهم في فلسطين، على مدار التاريخ القديم، كيانَين سياسيَين مُستقلَّين، وكلا الكيانَين تهاوى وآل إلى السقوط في العقد الثامن من عمره.
ما ورد أعلاه على جانب كبير من الأهمية، لكنّ الأكثر أهمية أنّ الحديث عن زوال الكيان غدا ممكناً بعد "طوفان الأقصى"، وكان قبله ضرباً من الأماني. أمّا اليوم فهو واقع مُعاش، تعبّر عنه جماهير من عامة الناس، وحتّى غير عربية، حين تهتف في الشارع: فلسطين حرّة.. من النهر إلى البحر، وقد كان هذا الشعار حِكرَاً على الأيديولوجيين العرب، بل كان يَرِدُ على ألسنة بعض الصهاينة، خاصّة تعبير "تحرير فلسطين"، من باب السُخرية، أمّا اليوم، فهو حلم على قيد التحقّق.