100 يوم من عهد بايدن .. صناعة اللاقرار
بعد مائة يوم على سكنه في البيت الأبيض، لا يبدو أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد خرج بالكامل من إرث سلفه دونالد ترامب، ولا تمكّن من التمايز الفعلي عن الرئيس الأسبق، باراك أوباما. وفشل حتى الآن في إرساء صورة واضحة لولايته الممتدة حتى عام 2024. لم يحضر الحسم لدى إدارة بايدن سوى في ملف واحد، مكافحة وباء كورونا. وهو الملف الذي يمنحه الرئيس الـ46 الأولوية القصوى، واضعاً مختلف الملفات الداخلية والخارجية جانباً، أو سامحاً بمفاوضاتٍ هامشيةٍ لتمرير الوقت، حتى تأمين أميركا المناعة الجماعية من فيروس كورونا وتعافي الاقتصاد، وهما أمران مرجّحان في سبتمبر/ أيلول المقبل، حداً أقصى. كل البيانات اليومية في الإدارة الأميركية، وكلام المصادر و"المسؤولين رفيعي المستوى"، منذ 20 يناير/ كانون الثاني، تُعدّ فناً في إهدار الوقت والحيرة والتردّد، فقد صاغت إدارة بايدن مفهوم قرار "اللاقرار" بصورة أكثر تجميلاً عما كانت عليه سابقاً. في الماضي، كان يُمكن أن تسمع عبارة دبلوماسية أميركية واحدة تتكرّر في كل المناطق والأقاليم العالمية، مثل "نطلب ضبط النفس" أو "نؤيد حق الشعوب في تقرير المصير". كان المسؤولون في واشنطن يستعينون بعباراتٍ محدّدة، قد يبدو أن الزمن تجاوزها، لتأكيد التردّد والابتعاد عن الانخراط المباشر أو التدخل الإيجابي أو السلبي.
اليوم باشرت واشنطن مساراً مغايراً، فقد تسمع أو تقرأ خبراً لمسؤول أميركي يحذّر إيران من المضي في مخالفتها قواعد الاتفاق النووي، ثم تسمع أو تقراً خبراً لمسؤول آخر، بعد ساعات، أو في اليوم التالي، يؤكد أن الولايات المتحدة وإيران على مشارف العودة إلى الاتفاق النووي. هنا، لا يمكن الاعتماد على صيغة دون أخرى، بل بدمج الصيغتين معاً، وإدراك أن الخبر الأساس هو أنه "لا زلنا في أماكننا. لا إيران تحرّكت ولا الولايات المتحدة أيضاً"، وانعكاس ذلك على مختلف الملفات المتشابكة، في اليمن والعراق ولبنان. وما ينطبق على الملف النووي الإيراني ينطبق على باقي الملفات الدولية، مروراً بالعلاقات الأميركية ـ الروسية والأميركية ـ الصينية.
في المائة يوم الأولى من عهد بايدن، يبدو الكورس أكثر حضوراً في الساحتين، الخارجية والداخلية، مع انكفاء نسبي لنائبة الرئيس كامالا هاريس. مع العلم أن ترامب كان "وان مان شو" طوال السنوات الأربع الماضية، مع إطلالاتٍ محدّدة لنائبه مايك بنس، وحضور واسع لوزير خارجيته مايك بومبيو. ولتراجع بايدن خطوة، قياساً على ما كان عليه ترامب، إيجابيات وسلبيات. في إيجابياته، إعادة إبراز المواقع الحساسة داخل الإدارة إلى الواجهة، مثل وزيري الخارجية والدفاع، فضلاً عن دفء العلاقة بين الرئيس والكونغرس. في المقابل، تكمن سلبياته في تعدّد أطراف صنّاع القرار بشكل زائد، بما يؤدّي إلى خروجه ضعيفاً. قرار الانسحاب من أفغانستان مثال على ذلك. في 29 فبراير/ شباط 2020، وقّعت الولايات المتحدة، بقيادة ترامب، اتفاقاً مع حركة طالبان، نصّ أحد بنوده على انسحاب الجيش الأميركي من كابول قبل حلول 1 مايو/ أيار 2021. حاول بايدن تمديد المهلة لأسبابٍ متعلقةٍ أساساً بتمكين القوات الأفغانية، لكنه فشل بسبب تمسك "طالبان" باتفاق 29 فبراير. حينها خرج بحلّ وسط، يمدّد فيه عملية الانسحاب بضعة أشهر، محرّراً الحركة من أي التزام تجاه الاتفاق بعد 1 مايو، بما قد يعقّد وضع العسكريين الأميركيين في أفغانستان من جهة، وبما قد يسمح في تدهور الوضع الأمني في كابول مجدّداً من جهة أخرى. في الحالتين، عدم الوضوح في الملف الأفغاني مؤشّر على عدم وضوح مماثل في ملفاتٍ أخرى، بما قد يُضعف نيات بايدن في استعادة الروحية القيادية للولايات المتحدة عالمياً، فاسحاً المجال أكثر أمام صعود الصين وروسيا. ومن شأن هذه المائة يوم "البايدنية" ترسيخ صورة عن أربع سنوات مقبلة مليئة بمفهوم "اللاقرار"، وممهّدة الطريق لعودة الشعبوية، مع ترامب أو غيره.