يوم صدح الشعب التركي: لا انقلابات بعد اليوم
لم تكن ليلة 15 يوليو/ تموز 2016 كغيرها من الليالي في تركيا .. ليلة لم يذق فيها الأتراك، على اختلاف توجّهاتهم، طعم النوم، فقد سطّروا ملحمة شهدها العالم أجمع، وأعلنوا، بالفعل قبل القول، أن عهد الانقلابات قد ولّى بلا رجعة... وبقدر ما كان فعل الانقلابيين خسيسا ووضيعا، كانت ردّة الأتراك مدعاة للفخر، حين نزلوا إلى الشوارع للدفاع عن الجمهورية والديمقراطية والحرية.
.. والآن وقد مرّ على هذه المحاولة الأثيمة خمسة أعوام، دعونا نستذكر ماذا حدث، لنعيد التأكيد على عظمة هذا الشعب، قبل أن نستخلص العبر من الحدث.
مع حلول الساعة العاشرة من مساء يوم الجمعة 15 يوليو/ تموز 2016 سيطرت مجموعة مارقة من العسكريين على مقر رئاسة الأركان القريبة من ميدان كزيلاي، وسط العاصمة أنقرة، واحتجزت رئيس الأركان خلوصي أكار، ومن ثم سيطرت على مبنى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وأجبرت مذيعين على قراءة بيان انقلاب، تزامنا مع إغلاق مجموعة أخرى من الجنود لجسري البوسفور والسلطان محمد الفاتح. لكن جسارة السيد الرئيس رجب طيب أردوغان وصموده ودعوته أبناء شعبه للنزول إلى الشوارع والميادين والمطارات، رفضا للانقلاب العسكري، ومطالبته القوات المسلحة والجنرالات الشرفاء بالوقوف بصلابة وشرف أمام من باع ضميره من الضباط الآخرين، أجهضتا هذه المحاولة الآثمة في مهدها.
لم تتأخر جماهير الشعب التركي في الخروج إلى الشوارع والمطارات، استجابة لنداء الرئيس، لحماية الديمقراطية وإفشال الانقلاب
ولم تتأخر جماهير الشعب التركي في الخروج إلى الشوارع والمطارات، استجابة لنداء الرئيس، لحماية الديمقراطية وإفشال الانقلاب، فانطلقت مظاهراتٌ حاشدةٌ في ميادين إسطنبول وأنقرة ومدن عدة، معلنة أن زمن الانقلابات قد ولّى، كما التفّت القوى السياسية التركية المعارضة حول الحكومة في رفضها للانقلاب. وخلال 15 ساعة فقط، نجح الشعب التركي، بمعاونة المخلصين من أبناء مؤسسات الدولة في إجهاض محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادتها مجموعة من الضباط المنتسبين لمنظمة غولن الإرهابية التي يتزعمها فتح الله غولن، القابع في بنسلفانیا الأميركية. وعلى مدى شهور، تبيّن كيف تغلغلت هذه الجماعة الإرهابية في كثير من مفاصل الدولة التركية، سعيا وراء لحظة الانقلاب المنشودة التي كانت تُمنّي النفس بها، لتسيطر على الدولة، أملا في تحقيق مصالح ضيقة للجماعة، ولمن يقف وراءها.
وفي دولة ديمقراطيةٍ كتركيا، عانت مرارا من الانقلابات، وقطعت أشواطا كبيرة في طي هذه الصفحات الأليمة التي أخّرت نهضتها سنواتٍ وسنوات، ليس أمام أي حزبٍ أو تيارٍ أو اتجاهٍ للوصول إلى السلطة إلا أصوات الناخبين عبر صناديق الاقتراع. ولذلك، مع الدقائق الأولى لمحاولة الانقلاب الفاشلة، رفضت قيادة القوات المسلحة التركية، والغالبية العظمى من منتسبيها، وكذلك الشخصيات والأحزاب السياسية على اختلاف توجهاتها، محاولة الانقضاض على السلطة بطريقة عفا عليها الزمن، ولم تعد مناسبة لدولة كبيرة مثل تركيا، خطت خطوات واسعة، وما زالت، نحو إرساء دولة القانون والعدالة والديمقراطية لشعبٍ يستحق، بلا شك، الأفضل.
ولكن المفارقة الغريبة تكمن في أن جماعة غولن، التي خططت محاولة الانقلاب الفاشلة ونفّذتها، ظلت تدّعي عقودا أنها تستقي مبادئها من الإسلام، وتنشط فقط في الأمور التعليمية والاجتماعية، ولا تمارس السياسة، لتأتي هذه المحاولة، وتفضح كل نواياها وخباياها الخبيثة. وكان غريبا أيضا أن يُسلّم ضباط وجنرالات أقسموا على الولاء لهذا الوطن عقولهم لشخصٍ يقيم على بعد مئات آلاف الأميال، يأمرهم بالانقلاب على وطنهم وشرعيته الدستورية، ولكن "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"، وقد نال هؤلاء جزاءهم، وتطهّرت منهم مؤسسات الدولة.
المحاولة الانقلابية الآثمة الفاشلة، تبين أنها، وإن كانت من تنفيذ عناصر تركية للأسف، إلا أنها لم تقتصر عليهم؛ تدبيرا وتخطيطا ودعما إعلاميا
ومنذ اللحظات الأولى للمحاولة الانقلابية الآثمة الفاشلة، تبين أنها، وإن كانت من تنفيذ عناصر تركية للأسف، إلا أنها لم تقتصر عليهم؛ تدبيرا وتخطيطا ودعما إعلاميا، بل وشماتةً حتى قبل أن تنجح. وقد بدا ذلك واضحا في تلكؤ بعض الدول في إعلان موقفٍ رافضٍ واضح من محاولة الانقلاب، حتى تبين لها فشل المحاولة، فسارعت بالتنديد بها وإعلان دعمها الديمقراطية والشرعية، ولكن بعد أن سُجل عليها هذا التأخر والتردّد. وفي دول أخرى، أظهرت وسائل الإعلام ما عجز ساستها عن إعلانه صراحة من دعم للانقلاب، وفرح به، وشماتة في ديمقراطية تركيا وشرعية رئيسها وحكومتها المنتخبين.
من لا يريدون الخير لتركيا سيواصلون سعيهم الخبيث لوقف نهضتها وتقدّمها، وقد يأخذ ذلك السعي شكل تحالفاتٍ مشبوهةٍ
استدعت هذه المواقف الداخلية والخارجية محاسبة المتورّطين المباشرين في محاولة الانقلاب، وإعادة الحسابات، وكما قال الشاعر:
جزى الله الشدائـد كل خيـر وإن كانت تُغصصني بريقي
وما شكري لها حمدا، ولكن عرفتُ بها عدوّي من صديقي
ولذلك، لم يواجه ملايين الأتراك، الذين امتلأت بهم شوارع الوطن ليلة 15 يوليو/ تموز 2016، فقط أدوات الانقلاب، بل واجهوا من يقف وراءهم إقليميا ودوليا، بعد أن استشعروا أن المخطّط أكبر من مجرد جماعةٍ أو مجموعة تريد القفز على السلطة، فالهدف الحقيقي هو وقف تقدّم تركيا، والعودة بها إلى الوراء دولةً على الهامش، لا في قلب الأحداث، تابعةً لا رائدة، منكفئة على نفسها لا تلقي بالا لحال محيطها وأمتها. وفي المقابل، فقد وقفت كثير من حكومات العالم وشعوبه الحرة إلى جانب تركيا في هذه الأوقات العصيبة، ولا تنسى تركيا أبدا أن سمو أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، كان أول زعيم اتصل بالرئيس رجب طيب أردوغان، مندّدا بمحاولة الانقلاب الغادرة، ومؤكدا على دعمه الشرعية. وفي السعودية، ومع بدء توالى أنباء محاولة الانقلاب الغادرة، هرع السعوديون إلى المساجد مكبّرين وسائلين الله تعالى أن يحفظ تركيا، وهو ما تكرّر في بلاد عربية وإسلامية كثيرة، حتى إن الشعب السوداني، على سبيل المثال، وزّع الحلوى في شوارع الخرطوم وغيرها من المدن، بعد تأكد فشل محاولة الانقلاب.
لم يواجه ملايين الأتراك ليلة 15 يوليو 2016، فقط أدوات الانقلاب، بل واجهوا من يقف وراءهم إقليمياً ودولياً
.. واليوم، ونحن نعيش ذكرى هذه المحاولة الغادرة، تمتزج مشاعر الفرح بالحزن والفخر، إذ تستذكر الأسر التركية شهداءها الذين ارتقوا دفاعا عن وطنهم، بينما يُسرع قطار الانطلاقة التركية خطاه داخليا بمشاريع عملاقة، وخارجيا بتأمين مصالح البلاد والمحافظة على تحالفاتها التي تنطلق من مبادئها وقيمها ومصالحها.
وكما لم تكن محاولة 15 يوليو/ تموز 2016 الأولى في سجلٍ طويلٍ من الانقلابات، فالمؤكد أن من لا يريدون الخير لتركيا سيواصلون سعيهم الخبيث لوقف نهضتها وتقدّمها، وقد يأخذ ذلك السعي شكل تحالفاتٍ مشبوهةٍ أو منظماتٍ ترتهن لقوى خارجية تحاول تحجيم دور تركيا واستهداف مستقبلها. وفي مقابل هذه المساعي غير الحميدة، فإن الشعب التركي الذي استيقظ فيه المارد، وأفشل تلك المحاولة التي شكّلت اختبارا مفاجئا، نجح فيه بشجاعته وعزمه، سيُفشل أي محاولاتٍ أو مخططاتٍ تحاول القفز على اختياراته، ليبقى نجم تركيا عاليا وهاديا.