يوم استقلال فلسطين

17 نوفمبر 2021

ياسر عرفات يحيي اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر (15/11/1988/ Getty)

+ الخط -

ولأن كل شيءٍ قد تغير، فتلك الذكرى حين تتداعى إلى ذاكرتك وقلبك وروحك تُنبئك كيف حدث ذلك، ففي ذلك اليوم البعيد، حيث تدثر الجد الراحل بعباءةٍ صوفيةٍ ثقيلة، كان يتباهى بها، وبأنها من ابنه المغترب اللاجئ البعيد، وحيث كان يضع أمامه موقد النار الذي يجمع الأحفاد والابن وزوجته. هناك كان يقبع تلفاز عتيق، وترى من خلال شاشته ذلك القائد الذي فتحت عينيك على صوته وصورته، والذي إن كان بعضهم يختلف معه، فالجميع لا يختلف عليه. وبالنسبة لك، وفي سنك الصغيرة تلك، ومشاعرك المتوقّدة، فقد علمك حبك فلسطين. ويوم أن دسستَ صورته تحت وسادتك، كنت تضع ذلك الوطن في القلب والروح، وتهتف له بينك وبين نفسك؛ خشية من الاعتقال الليلي المرعب، ولأنك تخاف على سلام تلك العائلة الصغيرة.

وقف الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، في قاعة قصر الصنوبر في الجزائر ليعلن "باسم الله وباسم الشعب الفلسطيني، أعلن قيام دولة فلسطين دولة لكل مواطني"، حيث صدح صوته في منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1988، وحيث كانت حبّات المطر في الخارج تتساقط، والدفء حولك في الداخل ينتثر، والدموع تجد طريقها من عيني جدّك العجوز، وحيث أحاطت بعينيه التجاعيد، فبدتا لك كأنهما بئران عميقتان تمتلئان بالخير. وكدت تطير فرحا مع هذه المشاعر، ونظرت إلى وجه أبيك، فرأيت يأسا قد اعتراه، ذلك اليأس يشبه كثيرا يأسك من نزول المطر، وحلول لسعات البرد المحبّبة في هذا الشهر كالعادة، فتدرك أن كل شيء قد تغير، فالأمس ليس مثل اليوم بالتأكيد، وما يُحزنك أكثر أن هذا الشهر هو الذي توفي فيه الزعيم الأوحد لفلسطين، والذي امتلك كاريزما القيادة بجدارة، واستطاع أن يتربع في قلب كل رجل وامرأة وطفل في فلسطين الوطن والشتات، واستطاع أن ينال احترام الأعداء في مفارقةٍ عجيبة، واستطاع أن يحظى بتقدير الأحرار والمناضلين في العالم ومؤازرتهم، فأصبحت القضية الفلسطينية، عقودا طوالا، تُعرف من خلال كوفيته المرقطة بالأبيض والأسود، والتي أصبحت وما زالت رمزا للثوار والأحرار، وتُشعرك أينما رأيتها بالفخر والاعتزاز، فياسر عرفات من المؤسّسين الأوائل لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن مفجّري الثورة الذين حوّلوا الشعب الفلسطيني من لاجئين يصطفون أمام طوابير مقرّات وكالة الغوث (أونروا) وفروعها لتلقي المساعدات والتبرعات بشكل مهين إلى ثوار في معسكرات الثورة الفلسطينية التي تعد من أبرز حركات التحرّر في العالم.

في ذلك المساء الخريفي، خمدت النار في موقدها، وأخلدت تلك العائلة الفلسطينية اللاجئة في غزة إلى النوم، والحلم ما زال في مخيلتها، وخصوصا الجد الذي باتت أيامه معدودة، ولكن صورة الحلم بدأت تنسحب وتبهت في المخيلة وفي المنام، وتطغى صورة الواقع الفلسطيني الأليم، وحيث أصبح الانقسام الفلسطيني البغيض ذا تداعيات مؤلمة ومستمرّة على القضية الفلسطينية وتحويل مسارها. وما زال الاحتلال يرتكب ممارسته القمعية بحق الأسرى والأراضي ومصادرتها، ويحاول أعداء القضية، أمثال بايدن، تصفية القضية قضية وطنية عن طريق القيام بما تسمّى إجراءات بناء الثقة والسلام الاقتصادي عبر التفاهمات التي تمثل المدخل الفعلي لخطة لبيد الاقتصادية التي تخطط لتعزيز الانقسام الفلسطيني، وتحويله إلى انفصال دائم ينهي حلم الراحل أبو عمار بإقامة دولة فلسطينية على أرض الواقع.

مر ثلاثة وثلاثون عامًا على ذلك المساء الذي نمت فيه وأنت تحتضن حلمك، حتى جاء اليوم الذي أفقت فيه على تساؤل مريع: ماذا تبقّى لنا؟ من فلسطين الوطن، ومن فلسطين الحلم؟ في غزة، حيث يستشرف غيرُ قليل من أبنائها النجاة؛ بركوب الخطر، والمجهول، وفي الضفة الغربية، حيث الاستيطان والتهويد مطلَق اليد، وفي المنافي والشتات، حيث المحيط العربي مُنهَكٌ مأزوم، والسياق العالمي أكثر اضطرابًا وسيولة!

تواسي نفسك قائلاً: أقلّه تبقّى الفكرة والأمل الضروري، حيث الخيبات أسئلة العودة؛ إلى أصل المسألة؛ نكون، أو لا نكون.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.