يوم أسقط الخميني جمهوريتَه

14 ديسمبر 2022

الخميني أمام حشود من الإيرانيين تحييه في طهران (2/2/1979/Getty)

+ الخط -

لم يتكهن آية الله الخميني، وهو يلقي خطابَه التأسيسي قبيل انتصار الثورة الإيرانية، بما كان سيأتي بعد أربعة عقود. لا أظنه تفكّر في أن من وُلدوا في عهد الجمهورية الإسلامية هم أنفسُهم سيطالبون بسقوطها. لم يتأملَ صراعَ الأجيال المقبل بقدر انشغالِه في الاستفادة من نزاعٍ عاصرَه لاستغلالِه في تأسيس شرعية نظامه الجديد.

ألقى الخطاب في مقبرة "بهشت زهرا" جنوب طهران يومَ عودته من باريس، مطلع فبراير/ شباط 1979. ضمّنه الخطوطَ الرئيسية لتبرير الحكم الثيوقراطي. كلامُه عن المبرّرات شرعن لثورةٍ كانت ستأتي مواجِهةً ميراثَه بعد عقود. تحدّثَ عن افتراضٍ رآه جدليا بأن سلطة رضا بهلوي، الشاه الأب، إن تحققت بشرعية اختيار الناس فإنه خيارُ جيل قديم؛ "إذا كانت سلطةُ رضا شاه شرعيةً بافتراض أن أهل ذلك الوقت اختاروها، ما هو حقّ الزمان الماضي ليقرّروا مصيرَنا؟ للأبناء حقُ تقرير مصيرهم الآن حيث غالبية الموجودين ليست ممن عاش ذلك العصر". مؤسّسُ النظام استصغر الشاهَ محمد رضا، كان يخاطبه بالقول "حذاء أبيك كبير عليك". لذا لم يخفِ الخميني الأمر في خطابه، فتحدّى الأبَ دون الابن. ومن جهة أخرى، لحديثه مدلولاتٌ لم يدرك أنها لا تلتقي بتاتا مع يقينياته السياسية العابرة للزمان والمكان، إنها التغييرات الحادثة بتوالي الأجيال.

كأنها قنبلةً موقوتة وضَعَها المؤسسُ لنسف نظامه نفسه. لم يتوقع أن يأتي زمنٌ بعد أربعين ونيف فينتفض الإيرانيون على نظام انتفض آباؤهم وأجدادهم لتأسيسه. القاعدة الرئيسة السائدة حاليا لكثيرين من ناشطي الحراك أن الجمهوريةَ الراهنة خيارُ السلف، وليست ملزِمةً للخلف مواصلةُ الولاء لها، خصوصا بعد إضرارها بحياة الناس وحرياتِهم ومعيشتهم. وصَل الحال بناقدين إلى درجة التعامل مع ثورة الآباء على أساس أنها حماقة دينية أنهت حكما علمانيا مدنيا، وليست نهايةً لنظام مستبد.

حين يفقد نظامٌ أيديولوجيةً يعتاش عليها، يفقد شرعيةً وضعَها لتبرير بقائه. هو يسعى الآن إلى فرض وجوده بطرق أخرى

هذان الملامة والتقريع نابعان من طبيعة بشرية قائمة على نسيان الألم القديم وأسبابِه حتى يكون ألمٌ جديد. في النهاية، لم يستحق نظامُ الشاه البقاءَ، كونه ما احترمَ شعبَه، ودفعَه إلى الانتفاضة عليه مرّات حتى أسقطتْه واحدةٌ منها. فشلَ الحكْمُ المولود من رحم الانتفاضات العتيقة في التعلم. مضى يكرّرُ الحماقاتِ القديمة بل أكثر منها. أذلّ شعبَه، ونَجَم عن سياساته فقرٌ واسع رغم الثروات. انتهك حتى أبسطَ خصوصياتِ الناس، ومن أجل قطعة قماش على شعر النساء اعتدى عليهن. وبلغت وقاحتُه درجة أن كافأ إبراهيم رئيسي على مشاركته في جريمة الإعدام الجماعي للسجناء السياسيين عام 1988، بتمكينه من رئاسة الجمهورية تمهيدا لمنافسته على خلافة المرشد خامنئي. نظام كهذا جدير بالأفول. المرشّح الرئاسي السابق المقام عليه جبريا، مير حسين موسوي، لم يتردّد في آخر بياناته من الإشارة إلى خيانة النظام ثورةَ 1979 التي "كانت لتفريغ السجون لا ملئها ... لسيادة الشعب على مصيره، لا لاستبداد قلة على الشعب".

لكنها الثورات، ورديةٌ تبدأ وقاتمة بعد الانتصار. وهذه الجمهوريةُ الإسلامية حين ارتكبتْ حماقاتٍ أوجعتْ شعبَها سقطتْ عقائديا، لا يؤمن بها في البلاد إلا القليل. تُشتم في كل مكان. الضوابطُ الدينية باتت مكروهة. شبه انتهت الرغبةُ في نصرة قضاياها الخارجية المتعلقة بما يسمى "محور المقاومة"، ودعمِ الجماعات الموالية في بلدان إقليمية. والقضية المركزية التي أججت الانتفاضةَ، وهي إحدى أقداس سياسات النظام الدينية، الحجابُ، تواجه تحديا علنيا. النسبةُ الكبرى من فتيات العاصمة نزعنه علانية، ليس فقط أثناء المظاهرات، بل في الحياة العامة… وحدها مؤسسات السلطة والتلفزيون الرسمي تُرى فيها كثرةُ غطاء الرأس.

حين يفقد نظامٌ أيديولوجيةً يعتاش عليها، يفقد شرعيةً وضعَها لتبرير بقائه. هو يسعى الآن إلى فرض وجوده بطرق أخرى. يلوَح تارةً بغصن الزيتون ملغياً شرطة "الأخلاق"، وواعداً يتغيير بعض قوانين "الانضباط السلوكي"، وأخرى بالعصا بعد أن أعدمَ أولَ معتقل وأصدرَ قرارا بإعدام عشرات آخرين. أمرٌ آخرَ يوظف، هو التخويف من تفتيت البلاد. يلجّ في إثارة المخاوف من القوميات الراغبة بالانفصال لربط الحراك بتقسيم البلاد. لذا يستخدم بعناية ملحوظة الكردَ غربي إيران، والبلوشَ جنوب شرقيها، والعربَ جنوب غربيها، في خطابه، وتمكينِ سياساتِه باعتبارها مسارا لحماية الوحدة. العربُ في مدن الأهواز والمحمّرة وعبادان وغيرِها بدوا أهدأ. أظن أن حملات الاعتقال إثر احتجاجات المياه عام 2021، وتَرْك العرب وحدهم في مواجهة القمع، أبعدَهم عن أن يكونوا في لبّ الحراك الراهن. غير أن الوضع في مناطق البلوش والكرد مختلف. الاحتجاجات هناك نشطة، والكرد حملوا السلاح في مدينة مهاباد، أو هكذا اتهموا أو هكذا تم توريطُهم.

الجمهوريةُ الإسلامية حين ارتكبتْ حماقاتٍ أوجعتْ شعبَها سقطتْ عقائديا، لا يؤمن بها في البلاد إلا القليل

في المقابل، يعتمد ناشطون من مجالات شتى على خطاب الوحدة لتفويت الفرصة على النظام. نجد، مثلا، أن لاعب كرة القدم الدولي السابق، علي كريمي، وقد تحوّل إلى ناشط مسموعٍ في المظاهرات، يتكئ على مصداقيةِ خطاب الوحدة، مستندا إلى مواقف لأهم رجال الدين السنة في زاهدان مركز محافظة سيستان وبلوشستان، وتسميةِ ما يجري "مجزرة البلوش". الأمر ذاتُه تعتمده الشاعرةُ والناشطة، هيلا صدّيقي، التي انتقلت أخيرا من صفتها إصلاحية إلى مطالبة بالتغيير الشامل. هي أيضا تعوّل على التحذير من محاولات التخويف من تفكّك البلاد مَدخلا للقمع. انطلاقا من هذا الخوف، تحذر نازنين بنيادي الممثلةُ الإيرانية وإحدى شخصيات مسلسل "خواتم القوة"، من الوقوع في التفرقة. تطالب الفنانة، وهي تقوم بنشاط واسع لدعم الحراك، بـ "اتخاذ خطوات واثقة لأجل المواطنين وحرية إيران بدلا من التفرقة".

وسواء كان الخطاب الوحدوي المعارض حالما أم حقيقيا، يظهر أن الجمهورية الدينية في الأيام الماضية نجحت مؤقتا في إشاعة الخوف من التقسيم. إلا أنها، في المقابل، شطرتْ إيران إلى فسطاطين. مير حسين موسوي في بيانه أخيرا اتهمها بالانقلاب على الوحدة، عندما سارتْ "لتقسيم المواطنين بين من هم ضد ومن هم مع". وسط المعادلة، يبدو الموالون للنظام أقليةً، ما دفعه إلى التعويل على الصامتين أو المتردّدين أو الخائفين من العواقب أو أصحاب المصالح… عبر تحجيم الاحتجاجات ومنعها من أن تستحيلَ إلى فعل ثوري متكامل. أظنه نجاحا مؤقتا، لأن القاعدة الأيديولوجية تفكّكت. كما أن لمعارضة الخارج تأثيرا بارزا في الداخل، إلى درجة أن تحجيم الإنترنت لم يجْدِ نفعا. أما الإعدامات، وهي ما تظنها منظومة الحاكمين حلا، فيمكن أن تنقلب عاملا يدفع الصامتين إلى الصراخ. هنا يصعّد المفكر الإيراني، محسن كديور، وكان قبل سنوات أحد المنظّرين للإسلام السياسي، من توقعاته "خطوة نظام الجمهورية الإسلامية غيرِ الشرعي إعدامَ المحتجين تقرّبه من لحظة سقوطه. خامنئي لا يمتلك سوى الإعدامات والتعذيب والسجن والكذب… لكن نظامه لا يدرك أن إعدام المعترضين سيؤجّج شعلة الغضب".

 بالعنف المفرط، يعطي النظامُ مزيدا من الفرص لدعوات المعارضين الراديكاليين إلى اجتثاث وجوده كاملا

بهذا العنف المفرط، يعطي النظامُ مزيدا من الفرص لدعوات المعارضين الراديكاليين إلى اجتثاث وجوده كاملا. يكرّر بذلك ما فعله عام 2009 عندما قمع الحركة الخضراء ودفَعَ إصلاحيين كثيرين إلى مواقف أكثر راديكالية لمواجهة أصوليته وعناده وفقاعةٍ يستوطنها تحجبه عن رؤية أن قاعدته الأيديولوجية انتهت. إنه يبرهن على أن المعارضين الراديكاليين على حقّ، ويفوّت فرصةَ نجاح مقترحاتٍ مثل الإبقاء مؤقتا على اسم الجمهورية الإسلامية مع إلغاء منصب ولاية الفقيه ومجلس الخبراء شريطة انتخاباتٍ حرّة يترشح فيها أيُّ راغب بدون مقصلة خامنئي المانعة مَن لا تُحب من المرشحين.

يدور هذا المقترحُ في فَلكِ أخرى عديدةٍ تقدّمها أطرافٌ لا تريد الذهاب إلى خيارات الاستئصال الشامل. يضغط بعضها على مراجع الدين في قم لإصدار موقفٍ ينصر الحراك أو على الأقل يحرّم توجيه السلاح ضده، لإنقاذ رقاب رجال الدين غير السياسيين من أن يكونوا شركاء ويدانوا بدعم توجهات النظام حين يسقط. كما تدعو أطرافٌ حتى المرجعَ الشيعي الأعلى في النجف العراقية، علي السيستاني، إلى التدخّل لتأثيره في أوساط إيرانية واسعة. كأنها دعوات جديدة إلى استعادة خطوة قديمة، عندما عارَض المرجعُ كاظم شريعتمداري عام 1979 زميلَه الخميني في إقامة حكم ديني، ما أدّى به إلى إقامة جبرية مشددةٍ رغم أنه كان شريكا في حماية زميله من الإعدام في ستينيات القرن العشرين.

ربما يفقه رجالُ الدي أن الغضب عليهم ومؤسستِهم واسع، وأن الحراك لا يقتصر على مطلب إسقاط النظام، بل غاضب كذلك من أسسه العقائديةِ والفقهية، بل من الإسلامِ ذاته. ورغم أن مشتغلين عديدين في الدوائر الدينية مغضوبٌ عليهم من خامنئي، إلا أن هذا لا يكفي لإنقاذ قم من مصير وخيم حال انهارَ الحكمُ الثيوقراطي. لذا يدور حديثٌ عن ضرورة إنقاذ وجود المؤسسة عبر التدخل في تخليص فتيات الاحتجاجات وشبانها من مشنقة ولاية الفقيه التي جاءت بذريعة إنقاذ الآباء والأجداد من مشنقة الشاه. إلا أن رجال الدين ليسوا الوحيدين في المعادلة. هناك قوّة أكثر نفوذا؛ الحرس الثوري. المؤسّسة العسكرية شبه المليشياوية تملك المال، وتمتلك رجال دين وسياسيين وبرلمانيين، وتتحكّم بأكبر المليشيات (الباسيج). جنرالات الحرس أصبحوا القوة في مواجهة أيّ معارضة. ولا يلوح أن في وارد أولئك القيام بأي خطوة تغييرية جذرية تمنع انزلاق البلاد إلى مواجهة أكثر دموية. ولا يبدو أنهم يعلمون أن التغيير نفسَه الذي آتاهم الحكم يحمل في جذوره تغييرا يعصف بهم بعيدا.

عمار السواد
عمار السواد
عمار السواد
إعلامي وكاتب عراقي، يعمل في التلفزيون العربي، ويقيم في لندن
عمار السواد