ترامب والأطلسي... عقيدة الرأسماليّ الخالص
لطالما ظلّ دعْمُ الولايات المتحدة حلفاءَها خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو) حاسماً. فاقت المساعدات المقدّمة لأوكرانيا وإسرائيل في حربيهما ما يحصل عليه الأطلسيون. ما لا يقل عن 75 مليار دولار قدّمتها الحكومةُ والكونغرس الأميركيان لكييف لغاية بدايات ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفقاً لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي ومعهد كيلي الاقتصادي الألماني.
بعيداً عن الحروب الدائرة، تواصل الولايات المتحدة دعمَها غيرَ الأطلسيين، مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وباكستان ومصر. هي جزء من التزامات أميركية تجاه أصدقائها خارج إطار المنظومة الجماعية للتحالفات التقليدية. هذا سياقٌ عملتْ عليه إداراتُ البيت الأبيض. خطابُها أيضاً، منذ بدايات توسع النفوذ الأميركي دولياً بعد الحرب العالمية الثانية، صِيغ على هذا الأساس. إنه مبنيٌّ على نقطة أساسية، أن الحلفاء محميون من الأعداء الخارجيين، سواء في عقود الحرب الباردة أو زمن القطب الواحد أو العهد الراهن حيث الصعود الصيني. مع هذا، بقيت معاضدتُها حلفاءَ "الناتو" في قلب الأولويات، بدءاً بحقبة القطبين وانتهاءً برفع مستوى التمويل بعد هجمات 11 سبتمبر (2001)، غير أن قاعدةَ أن لكل قاعدةٍ استثناءً لا تشذّ عنها الحالة الأميركية. الاستثناء هو الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في ما يتّصل بالحلفاء الأطلسيين وجلّ غيرهم.
في أكثر من مناسبة، تحدّث إلبريج كولبي، وكيلُ مساعدِ وزير الدفاع الأميركي للشؤون الاستراتيجية في عهد ترامب، عن التحالف المشروط مع الدول الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية. آخرها عندما انتقد صراحةً، في إحدى فعاليات لندن البحثية، عدّة دول أوروبية وآسيوية، بأنها لا تنفق ما يكفي على تطوير قدراتها الدفاعية الخاصة، وأنها عالةٌ على الأميركيين. كان الحديث في النهاية عن العلاقة بين واشنطن مع حلف شمال الأطلسي. الأمر من وجهة نظر المسؤول الأميركي السابق، اختصره في سطر على تويتر: "ببساطةٍ، ليس لنا القوة الكافية للهيمنة العالمية، لذا علينا الاختيار". والاختيار من وجهة نظره هو تقليص الحضور الأميركي في الشرق الأوسط وأوروبا لصالح مواجهة "الخطر الأكبر"، الصين.
قبل أيام، كرّر ترامب هجومه على "الناتو". المسألة مالية صرف. مع أن المطلوب من الأعضاء إنفاق 2% من حجم الناتج المحلي على الدفاع داخل الحلف
عندما كان كولبي، وهو مؤسّس مبادرة ماراثون الاستراتيجيات العالمية والأميركية، يتحدّث عن إنفاق الحلفاء على قواتهم، وعن أن الولايات المتحدة لن تدافع عن حليفٍ لـ"سواد عينيه"، بل فقط حينما يصير ذلك مصلحتَها، كنتُ أرى ترامب متحدّثاً، رغم أنه رفض بتاتاً الإجابة باسمه. في النهاية، هذا خطاب البيت الأبيض بين عامي 2017 - 2021، مع أنه عملياً لم تجرِ تغييرات جذرية في ما يتعلق بالالتزامات مع الحلفاء. ظلّ الحال خطاباً ضاغطاً أشعَرَ الآخرين بالإحباط أو الخشية، ودعا دولاً مثل فرنسا وألمانيا إلى التفكير في استراتيجيةٍ دفاعيةٍ خاصةٍ بأوروبا.
لم يتخلَّ دونالد ترامب عن رؤيته التي لم ينفذها تماماً حين كان رئيساً. هو الآن المنافسُ الأكثرُ حظاً على تمثيل الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المزمعة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. أمامَه عقباتٌ بعضُها سبّبها وبعضها وُضعتْ أمامه. غير أن برنامجه السياسي السابق لم يتغيّر. قبل أيام، كرّر هجومه على "الناتو". المسألة مالية صرف. مع أن المطلوب من الأعضاء إنفاق 2% من حجم الناتج المحلي على الدفاع داخل الحلف، لم تلتزم 19 دولة هذا السقف وفق أرقام "الناتو" لعام 2023، كذلك تنفق الولايات المتحدة ضِعْف ما تنفقه الدول الأعضاء مجتمعة.
في تجمّع انتخابي بولاية كارولاينا، روى ترامب أن رئيس "دولة كبيرة" سأله عمّا إذا كانت الولايات المتحدة ستهبّ لنجدةِ بلادِه حال تعرّضها لهجوم روسي، وردّ عليه بعبارته الشهيرة: "ادفع"، مضيفاً: "أنت متأخّر في السداد؟ قال: نعم. لا لن أحميك. في الواقع سأشجعُهم (الروس) على فعل ما يريدون". جمهوره الانتخابي ابتهج. الصحافة العالمية ضجّت. الحلف هلع مرتعباً. والرئيس الأميركي، جو بايدن، هاجمه.
على عكس كثيرين من حلفاء ترامب وخصومه الأميركيين، فضلاً عن أسلافه، لا ينظر إلى روسيا نظرة عداء مستحكم
ربما، الرواية ليست حقيقية، بل مِن بناتِ خيالِه للتهديد فقط. وليس مؤكّداً ما إذا قصد ما قال وأنه راغب في تنفيذ مثل هذا الوعيد. المتيقن أنه سعيدٌ بالإثارة وصدارة العناوين الصحافية والسياسية. الجليّ، أيضاً، أنه يبدي موقفاً مغايراً كلَ المعايير السياسية الأميركية. هو، على عكس كثيرين من حلفائه وخصومه الأميركيين، فضلاً عن أسلافه، لا ينظر إلى روسيا نظرة عداء مستحكم. بالعكس، امتدح مرّاتٍ نظيرَه الروسي فلاديمير بوتين. الرئيس الأميركي السابق عيْناه على الصين. ليس لأنها تهديدٌ عسكري، بل لأنها خطرٌ اقتصادي. هنا بيت القصيد في مواقفِه الخارجية.
يمثل ترامب، في السياسة الدولية، صورةً رأسماليةً أميركيةً غيرَ مقيَّدة بشروط إنسانيةٍ ولا باستحقاقات الدولة العظمى ذات الأذرع العالمية. هي صورة تعود إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، حين لم تكن لواشنطن قوّات كثيرة خارج محيطها الجغرافي القريب، ولم تكن لاعباً في دروب التنافس والنفوذين البريطاني والفرنسي الواسعين منذ القرن التاسع عشر. هو لا ينتمي إلى حقبة النزاع مع السوفييت، حيث أنفقت واشنطن ما لا يُحصى في صراعها مع المعسكر الشيوعي من دون مقابل مالي، بل لأجل مقاييس جيوسياسية. إنه ينظر ببصرٍ مثبت إلى الجانب الاقتصادي ومعطيات الربح والخسارة المباشرة. لا رتوش. لا بدائل. على الآخرين الإنفاق. فحين يقول: "كي نستعيدَ أميركا عظيمةً مجدّداً" هو يعني أميركا تلك التي كانت تنفق فقط للربح المالي.
لكن، باستثناء الاتفاق مع حركة طالبان الذي دفع واشنطن باتجاهه الدبلوماسي الأميركي زلماي خليل زاد، لم ينفّذ الرئيس السابق أياً من رؤيته المعلنة في ما يتعلق بسحب القوات من دول عديدة. نجح كلٌّ من وزير خارجيته بومبيو ومستشاره الأسبق للأمن القومي جون بولتون في إقناعه بعدم سحب الوحدات العسكرية من سورية. حرَصَا على المضيّ بقرار قتل قاسم سليماني، وهي عملية عسكرية تعدّ الأهم منذ قتل أسامة بن لادن في عهد سلفه أوباما. كذلك، أمَر بقصف صاروخي على سورية، مستهدفاً معسكرات نظامها على خلفية استخدام السلاح الكيمياوي. في عهده لم تتقلص بحدّة أعداد جنود بلاده في العراق.
القلق الغربي من عودة ترامب مبررٌ. بينما هو سوء تقدير تمنّي بعض الأوساط الناطقة العربية تلك العودة
اعتمد تكتيك ترامب في فترته الرئاسية على سياسة إخافة الحلفاء قبل الأعداء. وهذه نقطة أوجدها للمساهمة في توفير المال في إطار مسارٍ آخر ينطلق من النظر بحساسية وبغضب إلى صعود الصين اقتصادياً. بدقة أكثر، ليس الأمر متعلقاً فقط بتمنيات ترامب بإعادةَ بلادِه صناعياً إلى عهودها القديمة، وبعرقلةِ هجرة المعامل الأميركية إلى بلدان أخرى بسبب اليد العاملة. هناك أيضا نظرةٌ نحو الصين بأنها تسطو على قانون الملكية الفكرية. قال مرّة إن الصين تُضرّ بلاده بـ 600 مليار دولار بسبب سرقةِ براءات الاختراع والتكنولوجيا والاعتداء على الملكية الفكرية. بكين، من وجهة نظره، هي الخصم. لأنها تؤدّي إلى خسارة الولايات المتحدة موقعَها في القمّة، ما يترتّب عنه تراجع أرباحِها وتفرّد اقتصادِها. لهذا، يعدّ أيّ إنفاق خارجي بالنسبة إليه خسارة في هذه المعركة. وهذا يعني تعزيز الرؤية الرأسمالية الدولية الخالصة. أي الرؤية القائمة على أن على الحلفاء دفع فاتورة الحماية وليس العكس. لذلك، ليس متوقّعاً أن تغيّر الإدارة الأميركية، بافتراض أن رأسها ترامب، في الحراك العسكري الدولي أو في بوصلة الأهداف الجيوسياسية. ما يتغيّر أن الإدارة المفترضة ستضيف هدفاً ملحّاً آخر.
لنعرض الموضوع على النحو الآتي: عام 2003، عندما احتلّت القوات الأميركية والبريطانية العراق، لم تستفدْ واشنطن أو لندن اقتصادياً. على العكس، كان هناك إنفاقٌ للمال ثقيلٌ. أما الرواياتُ العربيةُ المولولةُ عن أن نفط العراق تسرقه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فهي محض هُراء ينتمي إلى إيقاع وعي خمسينيات القرن الماضي. الصين وتركيا واليابان وروسيا وإيران والإمارات شركاء اقتصاديون ونفطيون للعراق بما يتجاوز في أكثر الأحيان الشركات البريطانية والأميركية. أمّا لو كان ترامب وليس جورج دبليو بوش هو الرئيس، فهو قد لا يوقف الهجوم على العراق، بل سيحرص على أن يكون بمنافع اقتصادية يتيحها كونه بلداً نفطياً. هذا ليس مجرد افتراض، الرئيس الأميركي السابق طالَب بغداد بمليارات الدولارات، وحذّر من وضع اليد على الأموال العراقية في بلاده، حال إصرارها على سحب القوات الأميركية.
هذا يعني أن القلق الغربي من عودة ترامب مبررٌ. بينما هو سوء تقدير تمنّي بعض الأوساط الناطقة العربية تلك العودة. بُنيت المواقف الأميركية منذ الرئيس الأسبق فرانكلِين روزفلت على علاقات جيّدة مع الحلفاء بلا استحقاقات مالية، وعلى خصومات ليست مبنية على المال فقط، بل على الاصطفافات ومنطلقاتٍ أخرى. في زمن ترامب الافتراضي لن تكون هناك تحالفات مستقرّة، ولن تتوقف سياسات النفوذ الخارجية، بل سيضاف إليها باستمرار ثِقلَ الالتزاماتٍ المالية الكبيرة التي تزيد من معاناة الحلفاء، ناهيك بالخصوم. إنها لحظة ستصبح صعبةً للغاية على عالمٍ مثقل سلفاً بتداعياتِ الجائحة وتراجعِ الأمن الغذائي وحروبِ شرقي أوروبا والشرق الأوسط ونزعاتِ الشرق الأقصى والبلقان.