يجب أن تحبّوا الجُبن
كنت أشاهد مقطعاً مصوّراً من خلال تطبيق "تيك توك" لزوجةٍ شابّة تتحدّث عن المشكلات الزوجية، وعما تتعرّض له النساء من إهانة، وأنهن يصبحن بلا كرامة، ولكنهن يحتملن ذلك، لأن لا حلول أمامهن للخلاص. وذكرت أنها من هؤلاء النسوة، حيث عادت إلى زوجها بعد أن هجرته فترة طويلة، وبتنازلاتٍ مخجلة، لتحيا كما قالت في بيت أوهن من بيت العنكبوت.
في الوقت نفسه، كنت أقرأ خبرا قصيرا عما وصلت إليه خبيرة تغذية روسية بمناسبة اليوم العالمي للجُبن، المصادف في العشرين من يناير/ كانون الثاني، أن الأجبان بكل أنواعها تحتوي على حمض أميني يسمّى فينيثيلامين، وهو ناقل عصبي مسؤول عن العشق، وهذا المركّب الكيميائي يثير النشوة، ويؤجّج الحب، بمعنى أن تناول الجُبن يحفّز المشاعر طوال اليوم بين الأزواج، لو تم تقديمه وجبة يومية صباحية.
بقليلٍ من مراجعة تاريخ أشهر أنواع الجُبن في العالم، وهو "الريكفورد"، في مفارقة طريفة، الحب (والعشق) هو السبب في اكتشافه، حيث يُروى أن شابّا كان يتناول طعامه المكون من الخبز وجُبن النعاج، وقد رأى فتاة جميلة من بعيد. حينها ترك وجبته في كهف قريب وركض لمقابلتها، وعندما عاد بعد بضعة أشهر، وجد أنه قد تكوّنت على الجُبن البكتيريا، وأن مذاقها قد أصبح لاذعا وشهيا. وهكذا دخل جُبن "الريكفورد" ذو الأصول الفرنسية التاريخ، وأصبح يحتل موائد صباح الفرنسيين، ولكنه لم يفلح أبدا في تقليل الخيانات الزوجية مثلا، حيث تسجل فرنسا أعلى معدلات للمشكلات الأسرية التي تنتهي بهجر أحد الشريكين بيت الزوجية.
سرحتُ بين ذلك وذاك، وعدت بالذاكرة إلى تاريخ الجُبن في حياتي، وكيف كانت ذكرياتي الأولى أو لقاءاتي الأولى مع مذاقه، واكتشفت أن علاقة حبٍّ نادرة وغير مؤرّخة أو مخطط لها كانت بين جدّي وجدّتي، لأن وجبتهما الصباحية كانت من جُبن الغنم الذي تعدّه جدّتي في البيت. وفي الوقت نفسه، لم يكن أحدٌ قد توصل إلى هذه الدراسة مثلا، فهناك الفطرة والظروف الاقتصادية وإمكانات العصر البسيطة التي أدّت إلى أن تكون وجبة الصباح في ذلك الوقت، وأقصد سبعينيات القرن العشرين، الجُبن الأبيض وزيت الزيتون والخبز المقرمش والشاي الغامق الذي يُعاد غليه مرّات عديدة.
سرحت وتنهّدت أمام ذكرى يدي جدّتي البضّتين والمعروقتين، واللتين كانتا تعدّان الجُبن في البيت، فهناك ماعزة عجفاء بضرع جافّ، تستغرب كيف ينسلّ منه خيط واهٍ من الحليب، وهناك جدّي الذي يحلبها، ثم ينظر بخيبة إلى الحليب المتجمّع في قعر إناء من الفخّار فيحمله ويغطّيه، ويضعه في ركنٍ من الغرفة القرميدية، وينتظر حتى المساء، ليعيد الكرّة. وبعد أن يكون قد دسّ بعض الأعواد الخضراء أمام الماعزة التي تطلق غثاءً كل حين يدل على جوعها بالتأكيد، يمدّ يده الخجلى نحو جدّتي لتشرع في إعداد أشهى جُبن تذوقته منذ خلقتُ.
لم يخبر أحد هذين العجوزين عن هذه المادّة السحرية التي يحويها الجُبن، فكانت سبباً في اشتعال جذوةِ حبهما، ولو أن أحدا تجرّأ وأخبرهما لانهال جدّي فوق رأسه بمطرقته الضخمة التي صنعها من جذع شجرةٍ عجوز، ولتوقفت جدّتي لتلتقط أنفاسها اللاهثة، وحدثتنا بخجل عن لقائها الأول بجدّي، حين كان شابا فقيرا وفد من غزّة إلى يافا عروس فلسطين حيث تقيم، وحيث جمع بينهما الحب، والذي احتاج لكثير من الصبر والتحمّل وتجاوز الزلات و"التطنيش" وكل الأسس التي لا يمكن أن تُكتب، ولكنها تُعاش في بيتها، لتكون أسسا راسخةً للحياة الزوجية.
لم تكن جدّتي تصنع الجُبن مغشوشاً بزيوتٍ نباتية، ولا بالحليب المجفّف ولا بأي موادّ غشّ حديثة ماكرة، بل كانت تصنعه بكل إخلاص وصدق وأمانة، وتدفع بالصفحة التي يعتليها قالب الجُبن الصغير أمام جدّي وتأكل القليل على استحياء، إيثارا وحبا لجدّي. ولذلك نما الحب وترعرع تحت ظل متعتهما بتناول وجبةٍ صباحيةٍ قوامها الجُبن.