يتجنّبون الحرب الإقليمية ويتّجهون إليها
بدا، مع عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر أن الولايات المتحدة وإيران تتجنّبان الحرب الإقليمية؛ فأميركا لجمت الدولة الصهيونية عن مهاجمة حزب الله في لبنان، وأكّدت إيران بدورها أن لا صلة لها بالعملية، وضبطت حزب الله. رافقت المواقف هذه عمليات عسكرية وأمنية محدودة، ومضبوطة، كالمناوشات على الحدود اللبنانية، وإطلاق الحوثيين الصواريخ وتهديد السفن المتجهة نحو الدولة الصهيونية، ولكن ذلك أعاق حركة السفن التجارية الضخمة في باب المندب ووصولاً إلى قناة السويس، ويُهدّد بأزماتٍ اقتصادية إضافية لمختلف الدول، وتطوّر الأمر أخيراً إلى عمليات عسكرية من تحالف "الازدهار" بقيادة الولايات المتحدة، وأعادت الأخيرة تصنيف الحركة الحوثية منظمة إرهابية، وتتدارس وضع خطة عسكرية مستمرّة تستهدف الحوثيين، كما نشرت صحيفة واشنطن بوست أخيراً، وفي الوقت ذاته، شهدنا عمليات عسكرية للمليشيات التابعة لإيران وضد قواعد عسكرية أميركية في سورية والعراق، وردّت عليها أميركا؛ ولم تتوقف الدولة الصهيونية عن استهداف شخصيات عسكرية وأمنية بارزة في الاستخبارات الإيرانية التابعة للحرس الثوري.
لا يمكن عزل أيّة تحرّكات سياسية أو عسكرية أو أمنية في المنطقة بعيداً عما يجري في غزّة، والتهديد الخطير الذي أصيبت به الدولة الصهيونية، حيث استطاعت قوّة عسكرية فلسطينية "صغيرة" أن تشكّل تهديداً أمنياً وعسكرياً ووجودياً، وقد استدعى تدخّلاً غربياً لحمايتها، وهذا يدلّل على ضعفٍ شديدٍ في الدولة الصهيونية، ويهدّد بزوالها، وهو ما يتحدّث به كثيراً البروفيسور اليهودي إيلان بابيه، ويأتي قرار محكمة العدل الدولية، أخيراً، ليضفي عزلة كبيرة عليها في العالم. الآن، أصبحت الدولة الصهيونية في وضع سيئ، فهي تشنّ إبادة جماعية في غزّة؛ فرغم مرور قرابة ثلاثة أشهر ونصف شهر، لم تتوقف عمليات المقاومة، وفشلت مراحل العملية العسكرية الصهيونية بشكل كامل، ولم تستطع قتل قادة "حماس"، ولا اجتثاث الحركة ولا تهجير الناس خارج قطاع غزّة، ويظلّ هدفاً لدولة العدو، ولا استطاعت إعادة الاسرى.
تؤكد الاتصالات الأميركية مع بقية الدول الخليجية ضرورة حلّ الدولتين، وأن لا إمكانية لاستئناف علاقات التطبيع من دون إيجاد حلٍّ للمسألة الفلسطينية
الفشل الكبير هذا، ومقتل عددٍ كبيرٍ من الجنود الصهاينة، ووجود الآلاف منهم في حالةٍ سيّئةٍ للغاية، وتوجيه الاتهام لقادة الدولة الصهيونية بشبهة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، وهناك الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، كل هذا يستدعي إيجاد حلّ ما، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، يحفظ أمن الدولة الصهيونية. هذا الفشل، والضغوط الشديدة التي تلاحق الإدارة الأميركية لإيقاف إطلاق النار، واتساع الحركة الدولية المتضامنة مع فلسطين وغزّة، والأسباب سابقة الذكر، دوافع متعدّدة لمقاربة جديدة للوضع في غزّة. وقد كانت زيارة بلينكن إلى المنطقة أخيراً لهذه الغاية، وتؤكد الاتصالات الأميركية مع بقية الدول الخليجية ضرورة حلّ الدولتين، وأن لا إمكانية لاستئناف علاقات التطبيع من دون إيجاد حلٍّ للمسألة الفلسطينية وليس فقط إيقاف العدوان على غزّة، ولا مشاركة في إعمار غزّة قبل ذلك.
تراقب إيران المشهد بأكمله، والعمليات العسكرية الصهيونية ضد مليشياتها في كل المنطقة، وكذلك العمليات الجوية ضد الحوثيين، وفي الوقت ذاته، العلاقات "الدافئة" بين واشطن والرياض والدوحة وسواها، والتنسيق مع تركيا بخصوص غزّة كذلك، وهذا يعني تراجع موقع إيران في الاستراتيجية الأميركية، فقد كانت "معتمَدة" من الأخيرة في "السيطرة" على المنطقة العربية، لا سيما بعد غزو العراق في 2003، بينما تبدو الآن أقرب إلى التحييد، إن لم نقل التحجيم، رغم غياب استراتيجية أميركية واضحة بخصوص هذا الأمر. رغم ذلك، يهمّش الحراك الأميركي تجاه مجريات العدوان على غزّة إيران، وربما دفعها هذا إلى إطلاق صواريخ بعيدة المدى إلى كل من أربيل وإدلب وباكستان لخلط الأوراق، وللفت نظر الإدارة الأميركية، إلى أن أيّة ترتيبات في غزّة أو المنطقة يجب ألّا تتجاهل المصالح الإيرانية، كما من قبل.
إيران التي ظهرت لاعباً إقليمياً كبيراً مع بداية "طوفان الأقصى" لا تبدو كذلك في الأسابيع الأخيرة، بل كان قصفها الصاروخي للفت النظر
لا يبدو أن هناك تنسيقاً بين دول الخليج ومصر والأردن مع إيران بخصوص الوضع في غزّة، وكل النقاشات التي دارت منذ "طوفان الأقصى" ليس لإيران موقعٌ فيها، والمبادرات التي تُطرح بخصوص اليوم التالي في غزّة توضع بالضد من التمدّد الإيراني في المنطقة؛ ففي لبنان، هناك إصرارٌ على ترسيم الحدود وإيقاف الحرب ودفع حزب الله إلى الابتعاد عن الحدود، وهو ما سيَطرح لاحقاً الجدوى من بقاء سلاحه! وفي اليمن، تتجه الأوضاع إلى الاستقرار، لا سيّما مع استمرار الاتفاق بين السعودية والحوثيين على إيقاف العداء رغم التصعيد أخيرا بين "تحالف الازدهار" الأميركي والحوثيين. وفي العراق، هناك خلافات كبيرة بخصوص مستقبل المليشيات الطائفية التابعة لإيران، والتململ الواسع ضدها في الأوساط الشيعية، وفي سورية الأمور في غاية التعقيد.
إيران التي ظهرت لاعباً إقليمياً كبيراً مع بداية "طوفان الأقصى" لا تبدو كذلك في الأسابيع الأخيرة، بل كان قصفها الصاروخي للفت النظر، وقد أحدَث لها مشكلاتٍ كبرى مع باكستان والحكومة العراقية، تجتهد لتطويقها، وبالتالي، تجد نفسَها محاصرة. لا تبدو طهران الوحيدة المتضرّرة، بل كذلك الدولة الصهيونية، فهي تنطلق من سياسة التهجير، وعدم الاعتراف بحلّ الدولتين. وهذا بالضد من أيّة مبادرةٍ قد تتضمّن إيقاف إطلاق النار في غزّة وتخفيف الضغوط على الضفة الغربية، خشية إطلاق انتفاضة ثالثة، وهو ما تخافه أميركا أولاً، ولهذا تصرُّ على "حلّ الدولتين"، وتخشاه الدول الخليجية المطبّعة ثانياً؛ فإن كانت عملية طوفان الأقصى قد قضت على أوهام التطبيع من دون إيجاد سلطة فلسطينية وطنية في أراضي الـ67، فإن قيام انتفاضة ثالثة، وعلى أرضية الانتصار في غزّة، ستتعدّى آثارها الضفة إلى أراضي الـ48، وربما تَرفع سقف التفاوض للأنظمة العربية مع الدولة الصهيونية، ومن دون ذلك، ستكون أغلبية الأنظمة العربية مهدّدة بالسقوط، أو ستواجه مشكلاتٍ كبرى مع شعوبها.
التلكّؤ باتجاه تطبيق حلّ الدولتين، وقبله الانسحاب من غزّة، سيفتح الأفق الفلسطيني واسعاً لإعادة طرح الدولة الواحدة على أرض فلسطين
الآن، هناك تجنّبٌ مضبوطٌ لمنع اندلاع الحرب الإقليمية، وحصرها في غزّة، ولكن الدولة الصهيونية أصبحت بحالة "هزيمة"، وهي انتصارٌ "مرٌّ" للمقاومة؛ فغزّة محاصرَة من الدولة الصهيونية ومن مصر! والدول العربية تتجنّب التفاوض على أرضية الانتصار، وسقط من أهل غزّة أكثر من مائة ألف شهيد وجريح، وما تتداوله الصحافة من تسريبات وأخبار لا ينطلق من الانتصار هذا، وهو ما ترفضه الدولة الصهيونية ومعها الإدارة الأميركية ودول غربية كثيرة وبعض الدول العربية.
المبادرات المطروحة لليوم التالي تُحجّم من دور إيران وتُبعدها عن ترتيبات الوضع الأمني والسياسي للمنطقة مستقبلاً، وقد تدفع الدولة الصهيونية نحو توسيع الحرب، وهذا ما لا تريده الإدارة الأميركية، ولكن وفي حال تجاهلت، من جديد، الحقوق الفلسطينية في إقامة دولة في أراضي الـ67 وتفكيك المستوطنات فوراً والانسحاب من غزّة، فلن تهدأ الحرب في غزّة، ولا في الضفة الغربية، وهناك إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة، وربما وقوع الحرب الإقليمية.
التلكّؤ باتجاه تطبيق حلّ الدولتين، وقبله الانسحاب من غزّة، سيفتح الأفق الفلسطيني واسعاً لإعادة طرح الدولة الواحدة على أرض فلسطين، وستفشل كل اتفاقيات التطبيع، التي ما زالت الدول العربية المطبّعة تتمسّك بها، ولن يكون هناك نظامٌ أمنيٌّ للمنطقة بعامة، كما تطمح أميركا، وبقيادة الدولة الصهيونية! فهل تعي الإدارة الأميركية، راعية الدولة الصهيونية، خطورة الوضع في فلسطين أو في المنطقة؟
لا يبدو ذلك، ولهذا ليس مستبعداً توسّعٌ في الحرب الإقليمية، وإن إمكانية أن تتبنّى الإدارة الأميركية حملة عسكرية مُستدامة ضد الحوثيين قد تدفع بهذا الاتجاه، وهناك إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة في عموم الأراضي الفلسطينية.