في رحيل شهبندر تجّار دمشق
الاسم الأوّل في عالم التجارة والتجّار في دمشق وسورية، كما كان أبوه، بدر الدين الشلّاح، كذلك كان راتب المُتوفى قبل أيام. ارتبط الأب بحافظ الأسد منذ دخوله إلى غرفة التجارة في دمشق في 1970، ولكنه في 1972 أصبح رئيساً أبديّا لها إلى 1993. ورث راتب رئاسة الغرفة، بالانتخاب طبعاً، عن أبيه، كما بشّار الأسد. لقد أعاد حافظ الأسد المجد للأب بعد أن همّشه النظام السابق منذ 1965، حين أضرب التجار ردّاً على قرارات تأميمٍ جديدةٍ، فجَمّدت الحكومة غرفة التجارة حتى أعاد حافظ الأسد لها نشاطاتها.
اقتران اسم بدر الدين بحافظ الأسد سياقٌ طبيعيٌّ لانقلاب الثاني على رفاقه البعثيين وإيقاف كلّ ما يخصّ قرارات التأميم والإصلاح الزراعي، وقد تضرّر منهما بدر الدين وورثته منذ زمن الوحدة وقرارات جمال عبد الناصر بخصوص ما ذكرنا. كان الأسد يتفاخر بأنّه سبق الاتحاد السوفييتي في البيروسترويكا، حيث شكّل الجبهة الوطنية التقدّمية، وفيها أحزاب تابعة لحزب البعث ولأجهزة الأمن، وأعاد إلى القطاع الخاص دوره، وأنتج ما يُسمّى القطاع المشترك، فإذا كانت الجبهة التقدمية تشريعاً للنظام وللقمع السياسي ومصادرة الحريات، فإنَّ التعدّد الاقتصادي كان مدخلاً للعلاقة مع تجّار دمشق وسورية، وكذلك مع مختلف الفعاليات الاقتصادية. وكان لبدر الدين دورٌ مركزي في إعادة العلاقات الاقتصادية العربية، حيث كانت له علاقات قويّة مع العالم العربي قبل الوحدة مع مصر ووصول العسكر إلى لحكم 1963. كان هذا الاقتران بين بدر الدين الشلّاح وحافظ الأسد تأسيساً لعلاقة جديدة في عالم التجارة، بين السلطة (والدولة من بعدها) والقطاع الخاص، ويُعتبر بدر الدين الشلّاح أبرز من وافق على العمل مع حافظ الأسد في وقت غادر كثيرون من رجال الصناعة والتجارة سورية. وكما بدر الدين صعدت أسماء دينية كأحمد كفتارو ومحمد رمضان البوطي وآخرين، وفي السياسة ارتبط اسم خالد بكداش، الأمين العام لأحد الأحزاب الشيوعية في السبعينيات، بحافظ الأسد كذلك. شقَّ النظام بذلك كل فعاليات المجتمع حينذاك عبر رموزٍ سياسيةٍ وتجاريةٍ ودينيةٍ.
ورِثَ راتب الشلّاح رئاسة غرفة التجارة عن أبيه في عام 1993 وظلَّ فيها إلى 2008
الواقعة الأكثر شهرة لبدر الدين الشلّاح كسره إضراب تجار دمشق في 1982، وقد دعت إليه جماعة "الإخوان المسلمون" لشلِّ الوضع الاقتصادي للنظام وللضغط عليه للتفاوض والبدء بالإصلاح أو التغيير. بدر الدين، وكما كافأه حافظ الأسد برئاسة أبديّة لغرفة التجارة ردَّ الجميل، فنزل بنفسه إلى الأسواق التجارية، وأَجبر التجار على فتحها، وعلى التجارة بين المدن السورية، وبذلك ساهم بقسطه في إفشال الإصلاح أو التغيير أو مشروع "الإخوان" في السيطرة على الدولة حينها. تعمّقت بذلك أواصر الصلة بين الرجلين، فكانت كلمة بدر الدين أعلى من كل رجال الدولة في شؤون الاقتصاد، وورث الأمر راتب إلى لحظة بروز رامي مخلوف الكاسح عام 2000، حيث سيطر على الاقتصاد السوري، ابن خال الرئيس، مع بشّار الأسد، فتراجعت مكانة راتب كثيراً، ولكنه لم يبدِ أيَّ اعتراضٍ.
لم يكن الاسم الكبير لعائلة الشلاح من ثروتها المالية كما يُشاع، وليس من ارتباطها بالماسونية كذلك، وكان الأب ماسونياً، ونشر كتاباً في صورة له باللباس الماسوني وهو بعمرٍ كبيرٍ! تُعتبر العائلة متواضعة مالياً، واقتصادياً، قياساً بكبار الأثرياء في سورية. جاء الاسم من دور العائلة التجاري "تجارة الثوم والبصل والمشمش وجلود الحيوانات" ودور الأب والابن الكبير في تسيير مصالح التجار في سورية، وعبر العلاقة مع السلطة السياسية. مع حافظ الأسد، كان لرئيس غرفة التجارة بدر الشلاح دور سياسي منذ السبعينيات، ولكن وصول راتب الشلاح في 1993 إلى رئاسة الغرفة لم تكن له الأهمية نفسها (تولى مناصب كبرى إضافة إلى غرفة تجارة دمشق، مديراً للأسواق المالية ورئيساً لمجالس بعض المصارف وسواها). لقد دعم التوجّهات الليبرالية للسلطة للتخلّص من إرث التوجّهات الاشتراكية، حيث أصبح لها دورٌ اقتصاديٌّ من جرّاء النهب والفساد، وهذا سبب مركزي في التحولات الاقتصادية الليبرالية، وقد هيمن رامي مخلوف بشكلٍ كاملٍ بعد عام 2000 على أعمال الاقتصاد والتجارة وسواهما. ومع هيمنة الأخير، تضاءل دور القطاع العام، وأُفقرت الطبقات الصناعية والزراعية وتراجع دورها الاقتصادي، وهذا أدّى إلى انهيارٍ تدريجيٍّ لأوضاع الأكثرية الشعبية، ولا سيما بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، وأصبح متأزّماً في 2011، فكانت الثورة الشعبية.
مع بداية الثورة في سورية، لم يتخذ راتب الشلاح موقفاً مُنحازاً للسلطة
ورِثَ راتب الشلّاح رئاسة غرفة التجارة في 1993، وظلَّ فيها إلى 2008. مع بداية الثورة، لم يتّخذ موقفاً مُنحازاً للسلطة، وتؤكّد تقارير صحافية أنّه دعم النشاطات السلميّة للثورة ورفض مكوّنها العسكري، وكذلك الأسلمة، ويشار إلى أنَّ له دوراً في إطلاق مبادرة سياسية باسم "الضمير السوري" في 2011، وتنصّ على بقاء بشّار الأسد إلى 2014 فقط، ولكنّها لم تلقَ دعماً، داخلياً أو إقليمياً، وانتهت كما انتهى مؤتمر الحوار الوطني الذي أشرف عليه فاروق الشرع، وقد رَفضت السلطة كل المبادرات الإقليمية والدولية للإصلاح السياسي. والجدير ذكره هنا أنّ النظام لم يهتم لهيئة التنسيق الوطنية التي تشكّلت في مايو/ أيار 2011، رغم أنّها رفعت شعارات السلميّة وضدّ العنف والطائفية والتدخل الخارجي.
لم يستفد النظام من خبرات الأب أو الابن في التحوّل الاقتصادي الليبرالي، على الرغم من أنّ كلَّ تحوّلٍ ليبراليٍّ ضدّ مصالح الأكثرية، بل عمل على توظيف الرجلين في خدمة تحوّلٍ ليبرالي يتناسب مع السلطة الناهبة ولأجلها، وهذا ما أدّى إلى الفشل الكبير في مآلات سورية الراهنة، ولكن الأب والابن اندمجا مع مشيئة حافظ الأسد ثم ابنه. ولهذا كان دورهما سلبيّاً للغاية منذ السبعينيات وإلى لحظة استقالة راتب في 2008. لعب هذا الدور كلّ من خالد بكداش، سياسيّاً، وكفتارو والبوطي، دينيّاً.