"يا معـَلَّل"
أذكُر أن صديقا شاعرا قال لي، مرّة، إنه خارجٌ لينزّه حذائيه قليلا، ثم يعود. لم يستوقفني الأمر آنذاك، واعتبرته طرفة من ذلك النوع الذي يجيده الشعراء عامة. كان، ولسببٍ لم أفقهه آنذاك، قديما في هجرته، عتيقا في معنى الفقد والاغتراب. اليوم، وبعد مرور سنوات طويلة وحصول كل ما حصل وفوات كل ما فات، أفكّر عندما أخرج بدوري، أني سأصطحب معي رأسي هذي المرّة، أو عينيّ أو قدميّ، وأحتار، في أحيان كثيرة، فيمن آخذ معي لأني لا أستطيع، في مناسبةٍ واحدة، أن أحملني كلّي إلى حيث أروح.
فمنذ حصل ما حصل، وهو كثير، وقد ملّه الكلامُ من كثرة ما قال فيه وأعاد، ما عدتُ أشعر باجتماعي كلّا متماسكا، أو كيانا متكاملا تؤدّي أعضاؤه الكثيرة وظائفَها ومهامَّها باتساق. فأنا، وربما قلت نحن، منذ تركنا "تلك البلاد" التي تحمل في وجداننا أسماءً مختلفة، وإنما مشتركة في بئس المصير والأحوال، كأنما لتتبدّى تسمياتٍ وتنويعاتٍ لمكانٍ واحدٍ ينزلق موقعُه على الخريطة مثل حبّة زئبقٍ لا تستكين، مذّاك وأرواحُنا تركض في أصقاع الأرض ولا تلتئم ولا يستقرّ لها قرار. بل إننا نكاد نجزم بأن تشرذمنا وتبعثرنا لا يُحاكي انفراط العقد إذ تذهب حبيباته في كل اتجاه، لانفراطنا أجسادًا فقدت لُحمتها ووجهتها وما عادت تلتمّ على ذواتها، فيما أعضاؤها تنفصل، تُفتقد أو تستقلّ.
أُخرج عينيّ على سبيل المثال، فتذهبان إلى رؤية ما تشاءان، غافلتيْن عمّا أمرّ به وأريد لهما أن تنظراه. تريان زرقة بحرٍ يعلوه غيمٌ من نفناف، وطيورا تسامر الهواء، وصبيةً يمازحون الموج ويملأون الرمل لعبا وضحكات. أنزّه يديّ، فتتركاني إلى أُصص نباتٍ استقرّ على شرفتي البعيدة هناك، لتنزعا وريقاتٍ يبست وأعقاب سجائر زُرعت في التراب وقد خلَفها زوّارُ الأمسيات الطوال. أما رأسي، فيتركني مباشرةً إلى صدر أبي، حيث يتنشقّ رائحة عرقه وتبغه ممزوجة بصابون غار أمي. أسير ويغادرني أنفي إلى روائح بعيدة كارجا مثل طابة حمراء على أسفلت الشارع، حيث ينتظر الأطفال مرور عربة "المعلّل" (التفّاحية) ... وما أدراك ما المعلّل؟ هو كريات الشهوة السكّرية الحمراء تلتمع فوق العربة الخشبية، مصطفّة مثل عساكر بساقٍ واحدة، مقلوبة على رؤوسها بانصياع. يرفع البائع غطاء النيلون الشفاف بالكاد، ويستلّ حبّة يلتقطها الولد من ساقها الخشبية، متأملا في استدارتها التي تقارب الكمال، مؤخّرا لحظة القضم ما استطاع، فالتفاحة الخضراء المختبئة تحت الثوب السكّري الأحمر ليست المراد، بل هو ذلك الغلاف القاسي الذي تنبغي محاباته بتؤدة، لعقا أو قضما، قبل الولوج إلى نقيضه القائم في لسعة حموضة التفاح.
أمسك بالعود الخشبيّ وأنظر إلى المعلّل بفرحٍ عجيب، ثم أنتقل منه إلى ذاك الذي تحمله جارتي، أو الآخرون. وإذ يتضح أن الذي أحمله لا شائبة فيه، بل إنه ربما الأجمل والأكبر، أنتحي زاوية في الشارع أو أجلس على الرصيف، لأباشر مهمّة التذوّق والتلذّذ ودرّ اللّعاب، راسمةً في ذهني بوضوح المرحلة تلو الأخرى، وصولا إلى الإتيان على التفاحة بأكملها مع إبقاء قلبها متّصلا بالعود، وفي هذا مهارةٌ لا يقدر عليها سوى الأشدّ تمرّسا وبراعة من بين الأولاد. لكنّ الفاجعة تقف لي بالمرصاد، وإذا بحبّة المعلّل خاصتي، تسقطُ على الأرض، فيلحسها الشيطان، تاركا آثار لعابه عليها ممتزجا بقذارة الشارع وذرّات التراب.
نظر البائع إلى عينيّ المغرورقتين بالدموع، ثم انحنى يرفع ما سقط أرضا، تأمّل فيه من جميع الزوايا متفكّرا، صامتا، قبل أن ينقل نظرَه إليّ وهو يهز رأسه يمنةً ويسرة بما معناه: لقد قُضي الأمر! أغمضت عينيّ وانهمرت دموعي قهرا، وحين فتحتُهما، كانت حبّة معلّل أخرى تنتظرني باسمةً، لامعة، رفعها البائع في وجهي صامتا ودونما لقاء، قبل أن يبتعد صائحا بصوته على مداه: معلّل يا معلّل، يا معلّااااال ...