يا عيون الغرب أحبيني
في حوارات كثيرة، يتكرّرُ حديث المفكرين والمثقّفين عن الغرب الظالم، منذ بودكاست "فنجان"، إلى بودكاست "مغارب" إلى بودكاست "الاستشراق". منتقلاً من الكُتب إلى الحوار المرئي، بعدما أتاحت هذه الوسائل الفرصة لحوارات ثقافية وفكرية كانت غائبةً عن المشهد الإعلامي، الذي غرق في الوجبات السّريعة المضرّة بالصحة العقلية. وبقدر ما نُرحّب بهذه الحوارات، بقدر ما نجد أنفسنا في نقاش مع ما تقوله أسماء معروفة، وأخرى كانت حبيسة الجدران الأكاديمية، تنتقد الغرب الأبيض المُتعالي على الشّرق، الذي لطالما كان مستنيراً قبله، ولا يعترف بحسناته الحالية. من دون الانشغال بفكرة أن الماضي لا يشفع للحاضر، وأن ما يجب أن ننشغل به هو نظرتنا إلى أنفسنا، وكيف نلمّ شتاتنا نحو المستقبل، بغضّ النظر عن نظرة الغرب إلينا.
انتعش موضوع نقد الغرب بشدة، وخيبة أمل المثقف في المنطقة العربية، مع حرب أوكرانيا، ومكياليْ أوروبا العجيبين، ثم مع حرب غزّة وخزي التواطؤ الغربي مع جرائم إسرائيل. لكن ما الجديد في ذلك، وهل فوجئنا حقّا؟ كأنّنا اكتشفنا للتوّ أن الغرب ينظر إلينا نظرة من يحلّق في السّماء، إلى من يزحف على الأرض. فيما يتردّد مونولوج اتهام الغرب بالتّعالي منذ فترة طويلة، وعبّر عنه إدوارد سعيد بجملة واحدة: "الشرقي شرقي أولا ثم إنساني ثانياً" في عيون الغرب. هكذا فعلت أوروبا مع اللاجئين الأوكرانيين مقابل اللاجئين العرب. إذن، أزمة الشرق سياسية أولاً، وإذا انتهى عصر الانحطاط السياسي، سينتعش الثقافي، والوعي الذاتي للإنسان الشرقي.
وبدل أن يطالب الشرق الغربَ من أجل أن يغيّر نظرته إليه، يائساً متذمّراً، على خطى أغنية لطفي بوشناق، "خوذو عيني شوفو بيها"، مردّداً: "خذ أيها الغرب عيني وانظر إليّ من خلالهما، كي تراني كما أحبّ". عليه أن يعيد النظر في صورته في عينيه هو، البعيدة عن الكمال، لأنها سلبيةٌ في الواقع، فالشرق نفسه ساخط على نفسه، ولكنه مع ذلك يريد أن يحبّه الغرب ويحترمه. وأن يغيّر الزاوية التي ينظر بها إليه، فيعود الشرق لينظر إلى نفسه من خلال الغرب، ويرى نفسه كما يريد أن يكون ويرضى.
لعلّها قصة حبٍّ من طرفٍ واحد، أو حبٍّ وكراهية. وكأنّه من دون تغيّر هذه النظرة لن يخرج الشرق من الورطة التي هو فيها، والتي أوقع نفسه فيها، مع مساهمة العوامل الخارجية، حين تخلّى عن نفسه بسياسييه ونخبته، فظلّ عالقا في منطقة التطلّع إلى الذات من خلال الآخر، الذي ينفي باستمرار أن يكون وجودنا مساوياً له. بينما لا يتحقّق وجودنا من خلاله هو، بل من خلالنا نحن، ومن خلال اعتراف آخرين ليس بالضرورة أن يكونوا من الغرب، فهناك مليارات من "الآخرين" الذين هم خارج الغرب، الذي بالكاد يبلغ عدد أهله ملياراً واحدا. وبدلاً من أن يسعى الشرق إلى تغيير نفسه من أجل نفسه، ومن أجل صورته مع نفسه، ظلّ متقوقعاً، ونفى بقية العالم من اعتباره، مع أنه أثبت اهتمامه به، وبمصائبه. والدليل على ذلك، مواقف أميركا اللاتينية مع غزّة، وموقف جنوب أفريقيا اللافت.
من السهل لوم الغرب والانشغال بنقد رؤيته إلينا، لكن من الصعب أن نحفر أكثر لنضع اليد على جراحنا الأعمق، التي لا تكمن في نظرة الغرب، أو التراث الثقافي أو الديني، بل في انهيار الأطروحات والشعارات الفضفاضة التي أُغرم بها الشرق. ووضعية العراء التي كشفت ندوبنا الكثيرة، التي تحتاج التعقيم والتطبيب. أولها، الخروج من وضعية التقهقر في الحرّيات، والخطوات العرجاء إلى الديمقراطية، وانهيار حقوق الإنسان في عدد مهم من دول المنطقة العربية... وأدّى ذلك كله إلى انتعاش الطائفية والتعصّب والعنف وانهيار السلم الاجتماعي.
ثم إن الشرق نفسه ليس شرقاً واحداً، ولا يعرف بعضه، ولا يقرأ لبعضه، ولا يستفيد من أخطائه أيضاً، بل ينقل عدواها إلى جيرانه في الورطة نفسها. هو العالق في دور الضّحية، منتظراً أن يمدّ الغرب يده إليه لتُطبب على حسراته الكثيرة، وتنسيه همه. اليد نفسها التي تحاول إغراقه لتنجو، وتتعملق، كما صرّح بذلك سياسيون لهم من الصفاقة ما يكفي، مثل بايدن وترامب.