"نوبل" للإنسان المفرط في هشاشته

18 أكتوبر 2024

هان كانغ تتحدث في حفل توزيع جوائز بوني شونغ للابتكار في سول (17/10/2024 Getty)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

من المنطقي أن نقول إنّ كلّ إنسان هشّ بالضرورة في هذا الزمن، حتى المرتاحون في مجتمعات مزدهرة، والآمنون الذين لا ينقصهم شيء ضروري أو كمالي، على عكس ما كان قديماً، حين كان الفقر والمرض لعنتي الإنسان ومصدر شقائه. لذا ندرك جيداً أنّ المعايير لم تعد واضحةً. ولكن حين تُمنح جائزة نوبل للآداب، في عزّ حرب إبادة، للرّوائية الكورية هان كانغ، اعترافاً باحتفائها بالهشاشة، تتزعزعُ مقاييس الهشاشة وتفقد إيمانها بنفسها.

بالطّبع، لم نتوقّع أن تُمنح الجائزة لكاتب من المنطقة "المنكوبة" بتاريخها وجغرافيتها، لكنّ العذر هو الذي يستوقفنا؛ نحن الذين نعرف جيداً (كلّ من تجربته) أنّ الآثار التي تخلّفها حياة السرعة في نفسية الإنسان لا يمكن تجاوزها معظم الأحيان، وأنّ التعامل مع أَفراد نرجسيين لا يرون أبعد من مصالحهم، ومع المُجتمعات التي تسعى إلى امتصاص الإنسان وتدجينه، والسّوق التي تبيع وهم التعاسة، لتُقنعه بشراء الهناء، عبر سلوك استهلاكي قهري يقوم على الحاجة لمزيد من الأشياء ليعيش أفضل، قد تنتهي حياته منتظراً الأفضل، بقناعة راسخة بأنّه غير سعيد، طالما لم يتحقّق له الأفضل. لكن هل تجوز مقارنة هذه الهشاشة مع هشاشة حياة المعرّضين للقتل يومياً؟

لا يمكن التهوين من ورطة الإنسان المعاصر المُفرط في هشاشته، وأنّه كرة سهلة الوقوع في هاوية الاكتئاب، وفقدان الجدوى. وفي المقابل، هل هذه الهشاشة الفردية، التي ترافق الحياة شبه المستقرّة، هي ما يهدّد الوعي الإنساني، فيحتفي بها أصحاب أكبر جائزة أدبية في العالم؟ وهل من هشاشة أكبر من هشاشة أجسادٍ غضّة تتفتّت في غزّة؟ أو هشاشة طفل أو طفلة فقدا أُسرهما بالكامل؟ ومقابل هشاشتنا وانشطارنا النفسي، وسط حياة سريعة لا ترحم، هل نمنحُ هشاشةَ طفلٍ فقد ساقيه أو يديه في القصف الأولويّة، أو لآلامنا النفسية؟

بعد الحروب العالمية، احتفى الأدب بالمآسي التي رافقتها وتلتها، وكانت تلك الأعمال من بين أكثر ما يميز أهمّيةً مكتبةَ أيّ قارئ في العالم بأسره. والآن، نعيش مآسي المنطقة العربية التي فاقت التراجيديات كلّها، من ليبيا إلى السودان إلى سورية إلى لبنان والعراق واليمن، ودوما أمُّ التراجيديات فلسطين. كم من قصص وروايات تحفر في هذا الدمار النفسي، ويكتبها روائيون وقصّاصون وشعراء في مدار اليوم؟ ... لو أرادت اللجنة الاحتفاء بالهشاشة، لمدّت عنقها أبعد قليلاً، إلى هذه المنطقة التي يحمل أخبار مآسيها العادي والبادي من الإعلام.

وإذا كانت السينما العالمية قد انفتحت أمام الأفلام الفلسطينية، وصار جمهور السينما يتعرّف إلى القصّة والقضية، وإلى معنى الهشاشة، على الرغم من معانقة مهرجانات كثيرة الصهيونية خلال هذه الحرب، إلّا أنّ أفلاماً وجدت طريقها، على عكس أبواب الأدب التي تبدو محكمةَ الحصار، وأكثرَ صهيونية من الصّهاينة.

لا تقف الهشاشة عند الفلسطينيين، على طول باعهم فيها، فسورية سجّلت مأساةً لا يفوقها سوى ما تعيشه غزّة من قصف وحشي، وأدباؤها كتبوا وسجّلوا أنهاراً من الكلمات في مقابل أنهار الدم. والسودان هذا البلد المبدع، يقاوم كلّ يوم ممتلئاً بالحياة رغم مآسي الحروب. وليبيا عرفت طفرةً روائيةً أخيراً بعد أن عرفت الحرب الأهلية. والعراق بلد عريق في الكتابة، عاش مرحلةً مدمّرةً من العنف الذي أعاد البلاد عقوداً إلى الخلف. هذا كلّه دفع الإنسان إلى هاوية هائلة الانكسار قد تمتدّ آثارها أجيالاً.

وإن كانت جوائز الأدب تُمنَح عن الهشاشة، فإنّ عليها أن تُمنَح لأدباء المنطقة، بالتناوب منذ عقود. وإن كانت تُمنح عن الأدب فإنّهم أيضاً يستحقّونها، رغم ما يقوله بعض الذين لا يقرؤون الأدب العربي. فهذا أدب أَنتَج ويُنتِج باستمرار ما يوازي ما هو عالمي. الحقيقة أنّ هذا الأدب لا يقدّره أهله، فكيف بالأجانب عنه؟ ... وإذا توجّهت إلى معارض الكتب تجد أن الأدب المترجم هو الأوّل بمراحل في الإقبال، رغم أن أكثر من نصفه رديء بسبب الاختيارات، أو بسبب رداءة الترجمة.

الشعوب المذكورة سابقاً، سادةُ الهشاشة وروّادها، فلا يزايد أحدٌ عليها في صيتها، إلّا إذا كان يريد زبدةَ الهشاشة فيأخذها، هي وجوائزها.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج