وهم المركزيات في بلدان متناشزة
انتهز فؤادُ الأول، خديوي مصرَ ثم ملكُها في حينه، فرصةَ إعلانِ كمال أتاتورك نهايةَ الخلافة العثمانية، ليسعى نحو جعل القاهرة مركزا لخلافة المسلمين. بدا محاولا إعلانَ خلافةٍ لم تكتمل للمماليك بشرعية الخليفة العباسي "الشكلي" الذي أسقط رمزيتَه السلطانُ "الخليفةُ" سليم الأول في الربع الأول من القرن السادس عشر.
لم ينجح الخديوي، غيرَ أنّ المركزيةَ ظلّت ساكنةً الروح المصرية، روحَ البلادِ العريضة التي يقطع النيل صحراءَها وسهولَها ومدنها، وأعاد الفاطميون يوما جزءا من تاريخها. ظلت مصرُ تحاول استعادةَ مجدِها ومركزيتها عقودا بعد آخر خديويّ، حتى جاء جمال عبد الناصر. الزعيمُ المصري، بكل ما امتاز به مِن عنفوان وطغيان ورغبة بالتمدّد، هو امتدادُ حلمِ المركزية المعاد بواسطة أجنبيّ، ذهب إلى القاهرة فحكمها، ثم جعلها مملكةً ممتدة، محمد علي باشا.
وحين ضعُف ناصر بعد هزيمة 1967، بدأت مركزياتٌ جديدة في الظهور. هناك أمير للمؤمنين في المغرب، وحزب البعث، بما تستحضره المفردة من إعادة الإنتاج والنشور، في القُطرين؛ العراق وسورية، اعتمادا على إرث العباسيين والأمويين في بغداد ودمشق. وقَبل القطرين ظهر شابٌ مهووس بالمركزيات، باحثا عن جعل قلب شمالي أفريقيا مركزا، ليؤسّس أمرا محكوما بطموحات معمر القذافي وجنونه. وفي الجزيرة العربية كان همُّ المركزية الأم، مركزيةِ الإسلام البعيد، حتى ظهر مصطلح "خادم الحرمين" تعبيرا عن تلك المركزية.
حين نعود إلى الحضارة الغربية نفسها، كانت المركزية اللاتينية، عبر الدين والسياسة واللغة والثقافة، سبباً مهماً في منع التنوّع الأوروبي
حتى في الجوار غير العربي، انتصر الخميني طارحا نفسَه "وليَّ أمرِ المسلمين"، ومازجا بين انتظار الإسلام الشيعي وإرثِ الإسلام السني وتاريخِ إمبراطورية فارس، فلم يختلف، في الجوهر، عن "ملك الملوك" محمد رضا بهلوي. وبجواره بعد عقود، ظهر أردوغان سلطانا جديدا لخلافة سنّية تعتمد على إرث العثمانيين، خائضا في بقاع عدة ومتدخلا في جوار وغير جوار مترامٍ كأنه سليمٌ الأول أو سليمان القانوني أو محمد الفاتح.
ظهر الجميع في نحو نصف قرن، كأنهم الدود القادم من ثقوب المركزيات الحالمة، فدمّروا أحلاما أخرى، وأطاحوا حقائقَ أهم. الأحلام الأخرى هي هموم أجيال تريد الأمل، والحقائق هي حاجات أممٍ ترزح تحت الفقر أو الهزيمة أو الألم. ثم ماتوا جميعا، وبقيت المركزياتُ الواهمة. حتى على مستوى اللغة، هناك جهلٌ مركزي، استحضارٌ لإيقاعٍ فصيحٍ باعتباره الحقيقة الوحيدة، مع تناسي كمية الروايات في النطق والإيقاع والتصريف.. لأن المركزيةَ همٌّ للناطقين العربية، همٌّ متوارثٌ مِن أعمق جذور روح الاستبداد والأنا.
يقدّم محرّك البحث غوغل اليوم أكثرَ من سبع لهجات إنكليزية لغاتٍ رسميةً تكسر استبدادَ اللهجتين، البريطانية والأميركية. هي ليست مجردَ لهجاتٍ محكية، إنما لغاتٌ تنطق بها الفضائيات والصحف والحكومات والأكاديميات .. أمّا مركزيةُ الروايةِ الوحيدة في النطق العربي فهي جزء من هوس الأنا الشاملة والمسيطرةِ على إيقاع الناس جميعا، ثقافتِهم وطريقةِ تفكيرهم ومذاهبهم وقناعاتهم، همٌّ متوارثٌ من لحظةِ تغلّبت فيها قريشٌ على العرب جميعا. وهي، في النهاية، جزء من أزمة تفسير الإسلام مركزياً التي انتقلت إلى حضاراتٍ موازية، مثل الترك والفرس.
بينما حين غزا الرومُ بلادَ الشام، باسم الإمبراطورية البيزنطية، ظلت الأديانُ واللهجات، ثم تطوّرت أو تغيرتْ بموجب التثاقف بين الغازي والمغزو. سلطة روما وبينزنطة لم تتدخل إلا عندما كان دينٌ أو لغة خطرا على هيمنتها. ومع هيمنة فارسَ على بلاد ما بين النهرين (العراق) ظلت اللغاتُ المحلية قائمة، والأديانُ كذلك. كانت مملكةُ المناذرة تقريبا مسيحيةً في محيط وثني وزردشتي. هذه نسخة الحضارات الوسطى السابقة لصعود الدينين، المسيحي والإسلامي. بعد ذلك، ولدتْ مركزياتٌ شديدة القمع ضد كلّ مختلف. تارّة يكون القمع ثقافيا وتارّة اقتصاديا وتارّة سياسيا .. في النهاية، هو قمع يتجاوز حدودَ إرضاخ الآخرين اقتصاديا وسياسيا إلى تحويلهم ومسخِ هويتهم. وفي كل الحالات، كان الدينُ الإطارَ الواسع لتبرير عملية المَسخ.
استخدامُ الدين نقطةٌ مركزية حتى في أنظمةٍ سوّقتْ نفسَها علمانيا. فحين أراد أنور السادات طرْحَ مشروعِه "الجديد"، القائمِ على زعامته بنسخةٍ غيرِ ناصرية، استخدمَ الإسلام. بلغ هذا الاستخدام ذروته في خطاب السلطات الساداتيةُ لتبرير إرسالها "المجاهدين" إلى أفغانستان لقتال "الكافرين" الشيوعيين. حتى عبد الناصر نفسُه الذي أعدم بعض الإسلاميين عمِل على إنهاء المشروع الديني من خلال نقد فهم الإخوان المسلمين الإسلام. وأطلق صدّام حسين على نفسه اسمَ عبد الله المؤمن، ثم حين مات ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث، أعطاه اسمَ أحمد الإسلامي، قبل أنْ يصبح رائدَ الحملة الإيمانية في تسعينيات القرن الماضي. وسعى القذافي، في آخر عقد من حكمه، إلى استحضار إرث الفاطميين.
حين أراد السادات طرح مشروعه "الجديد"، القائم على زعامته بنسخة غير ناصرية، استخدم الإسلام
هذا المزيج المركزيُ بين الطموحات الشخصية أو الإقليمية "القُطرية" أو القبلية مع الدين هو ديدنُ منهجياتِ المركزيات العربية بعد سقوط الخلافة العثمانية. وهو ما أحدث إشكاليةَ الأنا المتصارعة داخل اللغة والثقافة والدين نفسِها. تقاتل الناطقونَ باللغة العربية فيما بينهم، وتنافسوا، وتعادوا، لإثبات شرعية المركزية هنا أو هناك. هو صراعٌ غير منتِج بل استبدادي، هو فرض الأنا. وحين نعود إلى الحضارة الغربية نفسِها، كانت المركزيةُ اللاتينية، عبر الدين والسياسة واللغة والثقافة، سببا مهما في منع التنوّع الأوروبي. قتلتْ روحَ الإبداع الذاتي الذي تتميز به الأمم المختلفة داخل القارّة، حتى بدأ الانكليز والإسبان باستعادة مركزية لغاتِهم بعيدا عن روما، فظهرتْ ملامح خصوصياتٍ مبدعة.
يُقال إنّ الانكليز بدأوا في ترجمة "الكتاب المقدّس" إلى لغتهم أولا، غير أن نقطة الحسم، كانت ألمانيةً. مارتن لوثر قسٌ متمردٌ على كنيسة روما ترجم إلى لغته كتابَ المسيحيين. انقلبت المعاييرُ. أوجد الصراعُ بدوره صراعا جديدا وآخر وآخر .. فانبرتْ عندها الجزيرة البريطانية إلى تبنّي رؤيتِها الكنسية الخاصة، في خليط بين الطموح السياسي لهنري الثامن والنسق الاجتماعي لجزيرة مستقلة وباحثة عن مكامن قوتها.
طرح الخميني نفسَه "وليّ أمرِ المسلمين"، ومزج بين انتظار الإسلام الشيعي وإرث الإسلام السني وتاريخ إمبراطورية فارس، فلم يختلف، في الجوهر، عن "ملك الملوك" محمد رضا بهلوي
عاشت أوروبا بالتأكيد صراعَ مركزياتٍ داخلياً، غير أنّ كلّ بقعةٍ فيها حافظتْ على نسق معين، ما ساعد على ظهور الإبداع المتنامي. وحين ظهر زعماء، مثل نابليون أو هتلر أو ستالين، ساعين إلى ابتلاع الجميع، انبرى ضدَهم الجميعُ. فعلى مدى عقود، احترم الأوروبيون تمايزَهم عن بعضهم، وانطلقوا ليتنافسوا خارج القارّة في مستعمراتٍ لا حد ولا حصر لها.
هذه الروح المغامِرة والحائلةُ دون ظهور مركزيات تبتلع المحيط، هي أحدُ تمظهرات التنوع الثقافي الذي ميّز الفلسفة الألمانية عن الفكر الفرنسي عن الأدب الإنكليزي، على الرغم من أنّ الجميع يُسمّى الثقافةَ الغربية، لكنها ليست ثقافةً واحدة بتاتا، بل متعدّدةٌ، متناشزةٌ أحيانا، وسياسيا تلتقي في نقاط معينة، وتختلف في طبيعتها. حتى على مستوى الاستعمار، كان الانكليزي منه مختلفا عن الفرنسي.
هنا ينبري الناطقون بالعربية، باحثين عن أحلامِ الأمة الواحدة، بلغة تنطق نطقا موحَدا، ومذهبٍ مشترك، ورؤيةٍ قومية. رغم أنّ الإيقاع في كل البقاع مختلفٌ عن بعضه، بل أحيانا لا يتفق كثيرا. هي رغبة قتل الخصوصياتِ لإعلان الأنا المسكونةِ بالتاريخ والمقدّس، من دون أيّ اعتبار للتنوع الموجود فعلا. ويأتي خطابٌ شديدُ العنصرية في بعض أدبيات سكان الجزيرة العربية، مصنفا الناطقين بالعربية إلى ثلاثة أقسام؛ عربِ الجنوب أو الجزيرة، عربِ الشمال أي العراق وبلاد الشام، وعربِ الأمصار، أي سكان مصر وبقية شمال أفريقيا. هو خطاب الأنا المنتصرة للعِرق، وليس اللغة فقط. بمعنى أنّ المعايير المركزية آخذةٌ طريقَها إلى مزيد من الأنا المتغوّلة، اعتمادا على أمورٍ لا تصمد أبدا أمام التحوّل والتطور المعرفي والسياسي والاجتماعي .. هي الأنا القائمةُ على تاريخ فيه كثير من روايات التأريخ، والتي ستظل حبيسة هذا التخبّط ذي التأثيرات السلبية على أي تطوّر ممكن.