"وطن" هائل بفعل فاعل
في وطن يضع "أحرق أفرم"، بدلاً من "أبجد هوز"، ولا يتألم لحرق البشر، وينتحب لحرق الحجر، من الطبيعي أن تحاصره ألسنة الحريق من كل جانب.
وفي ظل سلطةٍ تعادي الإنسانية، وتكره البشر، وتحرّض الناس على حرق وإبادة وإقصاء الخصوم، لا تستغرب أن يبلغ الإهمال والغفلة والبلادة حد الاستيقاظ على حريقٍ يلتهم مركزاً حضارياً على مساحة آلاف الأمتار المربعة، من دون أن يتحرك أحد لإنقاذه.
من مقبرة للغزاة إلى محرقة للمعارضين والثائرين المحبين لها، تنتقل مصر على يد سلطةٍ أول ما نطقت به أنها طلبت تفويضاً بالقتل والإبادة، فما الغريب في أن تتحول معهم إلى مقتلة ومحرقة؟
دولة تحتفي وتقدم بحثالات النازيين والفاشيين والمكارثيين، وتصفّق لهم، حين يرددون أناشيد الإبادة والاستئصال، وتصادق أعداءها وتحارب أشقاءها، وتنحط بمستوى قضاياها إلى مستوى رقص صافينار بالعلم، وظهور زوجة محافظ الإسكندرية، واعتقال ومحاكمة أطفال، وقتل صبايا وفتيات بالرصاص في التظاهرات والتوحّش والتعذيب في المعتقلات، وتبتز المنح والمساعدات، وتزرع البذاءة، بدلاً من القمح، وتعلن الحرب على الحياة، هي دولة من السهل أن يباغتها الحريق، فلا تعرف كيف تسيطر عليه.
دولة مستغرقة في تنمية الكراهية والقبح والانحطاط الإنساني، كيف لها أن تنمو اقتصادياً أو اجتماعياً أو أمنياً، حتى وإن حصلت على عشرات مليارات الدولارات، مقابل انقلاب مجنون على ثورة واعدة بالحياة وبالرقيّ والتقدم؟
دولة احتضنت مجموعات "البلاك بلوك"، ورعتها وصفّقت لها، وهي تلهو بعبوات المولوتوف الحارقة، ليس مستغرباً أبداً أن تكون فاشلة في الإطفاء والإنقاذ والنجدة.
هي فقط تجيد اللعب بالنار من دون إدراك عواقبها، تهتم بخراطيم الشتائم الإعلامية، ولا تجيد استخدام خراطيم المياه، إلا في حفلات التنكيل وقمع التظاهرات، وحين تشب تحت أقدامها، تفتح كتاب العبث والخيبة، وتتهم الإخوان وحماس وقطر وتركيا وأوباما.
إن الحريق ليس فقط في مركز القاهرة للمؤتمرات، تلك التحفة المعمارية التي أهدتها الصين لمصر في ثمانينات القرن الماضي، من دون أن تتكلّف الأخيرة دولاراً واحداً، تماماً كما منحتها اليابان دار الأوبرا الجديدة، بل الحريق الأخطر هو الذي تشعله سلطة حمقاء في التاريخ والجغرافيا ومبادئ العيش والقيم التي تضمن للناس أن يحيوا في مجتمعات، لا خرائب، أو حظائر لتسمين الغلّ والكراهية.
الحريق الأخطر هو ما يتهدّد جوهر وجود مصر، بدوائر انتمائها الثلاث، وطنها العربي، وأمتها الإسلامية، وقارتها الأفريقية. انظر للدوائر الثلاث ستكتشف أنها بعيدة عنها، في مقابل قربها حد الالتصاق من الكيان الصهيوني، تهاجم ليبيا، وتتحرش بغزة (فلسطين)، وتعادي قطر، وتصادق الغزاة الطائفيين في اليمن، وتكره تركيا، وتتلمّظ، حديثاً، من السعودية، وتتخلى عن إرثها الضارب في عمق القارة السوداء، حتى باتت تقف عاجزةً كسيحة أمام معضلة مياه النيل.
مَن كان يتصوّر أن "هبة النيل" ستشرع في عملية تحلية مياه البحر لمواجهة بخل النهر الطارئ، بفعل فاعل، وقلّة حيلة مفعول به؟
هل تعلم أن الدرس الافتتاحي في كتاب انقلاب الثورة المضادة كان عنوانه "إعلان الحرب على محاولة مصر تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح"؟ وأن حرائق أشعلت عمداً في الحقول والصوامع للقضاء على هذا الإنجاز؟
كان أول مطالب "جبهة المولوتوف" تغيير وزير التموين في حكومة هشام قنديل، لأنه حقق اختراقاً تاريخياً في أزمة القمح والخبز المزمنة، كما كان معيار الثورية الجديدة هو القدرة على تجهيز العبوات الحارقة واستخدامها، كما كان أول منجز للسلطة الجديدة محرقتي رابعة العدوية وسيارة الترحيلات، فكيف يكون هؤلاء مؤهلين للسيطرة على "حريق هائل"، اسمه مصر؟