ورطة بايدن وأميركا
ما زال العدوان الصهيوني على قطاع غزّة مستمرًا منذ أكثر من شهرين، بدعمٍ أميركيٍ واضحٍ وكاملٍ، رغم كلّ الاعتراضات الداخلية منها والخارجية. إذ يعتقد معظم المراقبين والمحللين أنّ دعم واشنطن السياسي والعسكري والاقتصادي هو العامل الحاسم في استمرار عدوان الاحتلال الإرهابي على القطاع. وعليه، يتطلب وقف العدوان اليوم أو غدًا تغييرًا جذريًا وملموسًا في الموقف الأميركي من العدوان، وهو أمرٌ معقدٌ، نظرًا إلى عوامل داخلية وخارجية عدّة.
داخليًا؛ نجد في مواقف كلٍّ من بيرني ساندرز؛ المؤثر في أوساط واسعةٍ من شريحة الشباب اليساري داخل الحزب الديمقراطي، والمرشّحة المحتملة للانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي، مارين ويليمسون، ونائبة الكونغرس رشيدة طليب، وسواهم؛ وبدرجة أقل الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، معارضةً؛ بدرجاتٍ متفاوتةٍ، لدعم إدارة بايدن المطلق للعدوان الصهيوني على قطاع غزّة، وعلى مجمل الأراضي الفلسطينية، وهو ما دفع الأول منهم إلى معارضة مشروع قانون تمويل المساعدات المالية، الذي يخصّص 14.3 مليار دولار لمساعدة الاحتلال منها قرابة العشرة مليارات للمساعدات العسكرية.
كما تجدُر الإشارة إلى رفض نواب الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ تمرير مشروع قانون لتمويل الاحتلال بالمبلغ ذاته قدّمه نواب الحزب الجمهوري؛ في 7 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، بسبب عدم تضمينه أيّ مساعداتٍ لأوكرانيا. الأمر الذي يكشف أهمية أوكرانيا في حسابات الإدارة الاستراتيجية الراهنة، أو بالأصحّ أهمّية تقويض روسيا. إذ عطّل الحزب الديمقراطي حزمة مساعدات الاحتلال، بهدف تمريرها رفقة حزمة مساعداتٍ أكبر منها لصالح أوكرانيا، وهو ما يدلّ على أولويّات الإدارة الاستراتيجية؛ أوكرانيا، كما يدلّ على عجزها عن تمرير مساعدات أوكرانيا من دون دمجها في قانونٍ واحدٍ يتضمّن مساعدات الاحتلال.
يتصاعد الخلاف داخل الحزب الديمقراطي بشأن حزمة مساعدات الاحتلال، وتحديدًا العسكرية منها
إذًا، يتصاعد الخلاف داخل الحزب الديمقراطي بشأن حزمة مساعدات الاحتلال، وتحديدًا العسكرية منها، وهو ما دفع الإدارة الأميركية؛ في 2023/12/10، إلى استخدام صلاحيات الطوارئ من أجل بيع نحو 14 ألفا من قذائف الدبابات للاحتلال من دون مراجعة الكونغرس، نتيجة تصاعد أصوات النواب الديمقراطيين المطالبين بمساءلة الاحتلال عن كيفية استخدام السلاح الأميركي، وحول احتمالية استخدامه في دعم ”الاستراتيجية العسكرية الصهيونية غير الإنسانية“ الحالية، وتحديدًا جريمة الإبادة الجماعية المرتكبة بحقّ الفلسطينيين عمومًا، وفي قطاع غزّة خصوصًا.
على صعيد الحزب الجمهوري؛ يعارض تقديم حزمة مساعداتٍ إضافيةٍ لأوكرانيا، في مقابل إجماع معظم نوابه على تمرير مساعدات الاحتلال المالية والعسكرية، الأمر الذي يهدّد استراتيجية الإدارة الأميركية في دعم أوكرانيا، أو تقويض روسيا، أو يعرقلها، ويحمّلها أثمانًا باهظةً قد لا تتحملها الإدارة الحالية، إذ أبدى نوّاب الحزب الجمهوري؛ أو بعضٌ منهم، استعدادهم لمقايضة تمرير قانون المساعدات الواسع؛ لأوكرانيا والاحتلال، مقابل إقرار قانونٍ أو إجراءاتٍ أميركيةٍ صارمةٍ تجاه الهجرة غير النظامية، على حدود أميركا مع المكسيك، وهو ما يصعّد من الخلافات والانقاسامات داخل الحزب الديمقراطي، كما يضرب فرص نجاح بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة، نتيجة خسارته أوساطًا اجتماعيةً إضافيةً، تتمثّل هذه المرّة في المهاجرين الجدد، والأميركيين من أصولٍ لاتينيةٍ، والمكسيكية تحديدًا.
دوليًا؛ نلحظ أولاً ارتياحًا روسيًا من انشغال المعسكر الغربي بعدوان الاحتلال، وخسائره، وتصاعد الغضب الشعبي العالمي من ممارساته الإجرامية، وسلوكه المنافي لحقوق الإنسان. في مقابل توتر أوكراني من تراجع الدعم العسكري والمالي والإعلامي والسياسي في معركتهم الطاحنة مع القوات الروسية الغازية، وهو ما قد يقوّض الجهود الأوكرانية والغربية، ويقلب المعادلة الاستراتيجية من هزيمةٍ روسيةٍ ساحقةٍ، كانت تلوح في الأفق قبل 7 أكتوبر، إلى انتصارٍ روسيٍ مدوٍّ، وهو ما حذّرت منه صحفٌ غربيةٌ وأميركيةٌ عدّة، تكهّن بعضها باحتمال هزيمة أوكرانيا وانتصار روسيا في غضون ثلاثة أشهر، في حال استمرّ تراجع الدعم الغربي لها.
نلحظ تسارع وتيرة المواقف الدولية المعارضة للموقف الأميركي الحالي من العدوان الصهيوني على غزّة وفلسطين
ثانيًا؛ يتواصل تداعي معسكر دعم الاحتلال، أو على الأقلّ يتضعضع، خصوصًا بعد تراجع الخطاب الدبلوماسي الفرنسي، الذي بات يطالب بهدنةٍ إنسانيةٍ طويلةٍ في فلسطين تُفضي إلى وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار. إلى جانب فتورٍ في الخطاب الدبلوماسي البريطاني بعد تولي ديفيد كاميرون وزارة الخارجية، إذ تراجع خطاب دعم عدوان الاحتلال المطلق لصالح خطابٍ أوسع وأقلّ تشنجًا تجاه الفلسطينيين وقضيتهم العادلة، وهو ما انعكس في امتناع بريطانيا عن التصويت لصالح أو ضدّ مشروع قرارٍ لوقفٍ فوريٍ لإطلاق النار في غزّة، يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 2023، فضلاً عن مواقف بعض دول أوروبا الحليفة لواشنطن من الإجرام الصهيوني المتواصل في فلسطين، وبالأخص في قطاع غزّة، وفي مقدمها إسبانيا والنرويج. مرورًا بمواقف دول كثيرة دانت الإرهاب الصهيوني المتواصل، وطالبت بوقفٍ دائمٍ وفوريٍ لإطلاق النار، فضلاً عن طلب دول عديدة محاسبة قادة الاحتلال على جرائمه المتواصلة، خصوصًا على جريمتي الإبادة الجماعية والتهجير القسري.
في السياق ذاته، نلحظ تسارع وتيرة المواقف الدولية المعارضة للموقف الأميركي الحالي من العدوان الصهيوني على غزّة وفلسطين، كما في تصويت 153 دولة لصالح قرار الجمعية العامّة للأمم المتّحدة، مقابل اعتراض عشر دول فقط، معظمها ليست من حلفاء أميركا والاحتلال الأقوى والأهمّ، إذ امتنع معظم حلفائهما عن التصويت. كما نلحظ في الأيّام الأخيرة تسارعًا ملحوظًا في وتيرة دحض أكاذيب الاحتلال بشأن عدوانه على قطاع غزّة أولاً، وبشأن اتهاماته الزائفة في ما يتعلق بعملية 7 أكتوبر، كما في تحقيقات نشرتها صحيفة هآرتس ومواقع وصحف صهيونية، أو التي نشرتها صحيفتا ليبراسيون ولوموند الفرنسيتين، إلى جانب ”نيويورك تايمز” الأميركية.
من المرجّح استمرار الانقسام الداخلي الأميركي الحزبي، ونسبيًا الشعبي على المدى المنظور، وربّما المتوسط
يضع ذلك كله الإدارة الأميركية أمام خياراتٍ صعبةٍ ومعقدةٍ إذ يصعب عليها تمرير خططها الاستراتيجية في ظلّ تصاعد الخلافات الداخلية مع الحزب الجمهوري من جهة، ومع شريحة تتّسع يوميًا من أعضاء ونواب الحزب الديمقراطي من جهةٍ أخرى. كما يصعب عليها تقديم تنازلاتٍ جدّيةٍ للحزب الجمهوري بغية تمرير حزمة المساعدات العاجلة إلى أوكرانيا ودولة الاحتلال الصهيوني، نظرًا إلى تداعيات ذلك على معسكر بايدن والحزب الديمقراطي الانتخابي، الذي يعاني أصلاً من إرباكاتٍ ومشكلات عديدةٍ منذ 7 أكتوبر. كما يصعب عليها التراجع عن دعمها المطلق للاحتلال بسرعةٍ، نظرًا إلى تداعيات ذلك على الكونغرس، وربّما تداعياته السلبية على تمويل حملة بايدن الانتخابية، وربّما حملة الحزب الديمقراطي أيضًا. من هنا، تبدو الإدارة الأميركية في ورطةٍ كبرى ومحكمةٍ، نتيجة فشل رهانها على نجاح الاحتلال سريعًا في عدوانه، أو على الأقلّ نجاحه نسبيًا، وهو ما يُعيدنا إلى العوامل الرئيسية الثلاثة لهذا الفشل، وأوّلها صمود الشعب الفلسطيني، وإصراره على استعادة كلّ حقوقه المستلبة، من العودة، والتحرير الكامل، وتقرير المصير، وإقامة دولة فلسطين المستقلة. وثانيها؛ صمود المقاومة وبسالتها في الدفاع عن أرض فلسطين، وعن قطاع غزّة أمام الغزو الصهيوني المتجدّد. وثالثها؛ التضامن الشعبي العالمي المتفجر في كلّ العواصم العالمية غربًا وشرقًا وشمالاً وجنوبًا.
نتيجة ذلك كله، تبدو الإدارة الأميركية اليوم في ورطةٍ كبرى، قد تدفعها إما نحو البحث عن مخرجٍ بأقل الخسائر داخليًا وخارجيًا؛ بعدما كانت تبحث عن انتصارٍ مدوٍّ، أو قد يدفعها نحو تفجير الأوضاع إقليميًا ودوليًا، لمزيدٍ من المماطلة والمناورة، التي قد تفتح أبوابًا مغلقةً أمامها اليوم، في استعادةٍ يائسةٍ لمبدأ الفوضى الخلاقة. في كلا الحالتين، لا تبدو حظوظ الإدارة الحالية مرتفعةً، بل قد يصحّ القول لا تبدو حظوظ الإدارة المقبلة مرتفعةً أيضًا، فمن المرجّح استمرار الانقسام الداخلي الأميركي الحزبي، ونسبيًا الشعبي على المدى المنظور، وربّما المتوسط، وهو ما قد يهدّد مكانة أميركا العالمية أولاً، وقد يهدّد مستقبل الاحتلال ثانيًا، الذي بات في قناعة شرائح شعبيةٍ واسعةٍ التهديد الأكبر لمستقبل البشرية وسلامتها، وهو ما دفع كثيرين إلى وصفه بـ ”النازية الجديدة”.