نظام الإبادة الجماعية
شنّ الاحتلال الصهيوني بعد "طوفان الأقصى" عدواناً همجياً وإرهابياً على كلّ ما هو فلسطيني، في قطاع غزّة وداخل الخطّ الأخضر والضفّة الغربية والقدس ضمنياً، إذ بلغ عدوانه الحالي مستوياتٍ غيرَ مسبوقةٍ في تركيبته الحالية القائمة على كثافة إجرامية عالية، وإرهاب مكثّف يستهدف المدنيين الفلسطينيين، وفي مُقدّمهم الأطفال، في مدىً زمنيٍّ تجاوز 11 شهراً. خلّف عدوان الاحتلال المستمرّ والمكثّف أكثر من 40 ألف شهيدٍ، معظمهم من الأطفال، الأمر الذي دفع مؤسّساتٍ دوليةً وهيئاتٍ قانونيةً وحقوقيين ونشطاء ومتضامنين وإعلاميين كُثراً إلى القول إنّ سلوكات الاحتلال الحالية ترقى إلى جرائمِ حرب، وإلى جرائمَ ضدّ الإنسانية، مثل التهجير القسري والتطهير العرقي والحصار الخانق وصولاً إلى جريمة الإبادة الجماعية، المعروفة بالقانون الدولي بـ"أمّ الجرائم".
في ضوء ذلك، برزت نقاشات موازية لتعمّد الاحتلال (بل إقراره) إبادة شعب فلسطين جماعياً، خصوصاً في قطاع غزّة، منها النقاش المرتبط بمدى الجريمة الزمني، وبالجدوى القانونية والسياسية، فضلاً عن التشبيه والقياس، خصوصاً مع حالتي جنوب أفريقيا (نظام الفصل العنصري) وأميركا (إبادة الهنود الحمر جماعياً)، إذ تجدر الإشارة هنا إلى أنّ تشبيه معاناة شعب فلسطين الأصلي على يد الاحتلال الصهيوني بما واجهه شعب أميركا الأصلي (الهنود الحمر) بيد المستوطنين الجُدد (الأميركي الأبيض اليوم) ليست جديدةً في المستوى الثقافي الفلسطيني.
في مستوى التشبيه والقياس، نلحظ أنّ ممارسات المستوطنين البريطانيين تجاه سكّان أميركا الأصليين تتطابق بطريقة شبه كاملة مع ممارسات الاحتلال الصهيوني تجاه سكّان فلسطين الأصليين (الفلسطينيين)، سواء في ما يتعلّق بجريمة الإبادة الجماعية، وبتشييد نظام فصل عنصري (مستمر)، وبتطهير عرقي، وبتهجير قسري، وبمحو ثقافي، وسواها من جرائم يرتكبها اليوم في فلسطين جيش الاحتلال الصهيوني ومستوطنوه، بمباركة قادة الاحتلال وتوجيههم ودعمهم. في حين نلحظ تطابقاً أقلّ قليلاً بين الاحتلال الصهيوني ونظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي، خصوصاً في ما يتعلّق بفعل الإبادة الجماعية.
لا تصحّ الاستهانة بالقانون الدولي ولا بالقرارات والتقارير الأممية، فهي أدواتٌ فاعلةٌ في التواصل مع شعوب العالم
وفي الجدوى القانونية، قد لا يختلف اثنان على محدودية تأثير القانوني الدولي، رغم النصوص القانونية الجيّدة عامةً؛ مع ضرورة الإشارة إلى حاجة النصوص القانونية إلى مزيدٍ/ كثيرٍ من التطوير والوضوح والحسم، إذ عادةً ما تواجه المؤسّسات القانونية الدولية، بل مجمل النظام الدولي (الأمم المتّحدة هيئاتها المختلفة) عقباتٍ عديدةً تحول دون قدرتها في تطبيق النصوص القانونية، والقرارات الأممية، في حال عدم توافق الدول العظمى على تطبيقها في كلّ حالةٍ على حدة، فضلاً عن ضرورة توافقهم على آليات تطبيقها وكيفيّته وتوقيته.
من هنا، يُشكّك عديدون في فاعلية المؤسّسات القانونية الدولية، قائلين إنّها من أدواتِ الهيمنةِ والسيطرةِ الأميركية، الأمر الذي أفضى إلى تمنّع تلك المؤسّسات عن محاسبة القوى العظمى على جرائمها التاريخية والحاضرة، كما في احتلال أفغانستان والعراق أميركياً، وكما في جرائم الاحتلال الصهيوني المُتعدّدة داخل فلسطين وخارجها، حاضراً وماضياً.
رغم ذلك كلّه، لا يصحّ الاستهانة بالقانون الدولي، ولا بالقرارات والتقارير الأممية، فهي أدواتٌ فاعلةٌ في مستوى التواصل مع شعوب العالم وقواه الفاعلة، خصوصاً في الحالة الفلسطينية، التي يضخّ فيها الاحتلال وداعموه في المعسكر الغربي، وفي مقدّمهم أميركا، سيلاً جارفاً من الأكاذيب السياسية والتاريخية، التي تحرّف الواقع وتُقولبه بما يخدم المصلحة الصهيونية والأميركية، إذ أسهمت هذه المؤسّسات في نشر الرواية الفلسطينية، أو في الأقلّ في دحض رواية الاحتلال، كما عرّفت شعوب العالم إلى جرائم الاحتلال وسلوكاته الإرهابية اليومية بحقّ شعب فلسطين الأصلي.
وفي ما يتعلّق بالمدى الزمني، نلحظ في دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية التي اتّهمت الاحتلال الصهيوني بإبادة شعب فلسطين الأصلي جماعياً في قطاع غزّة، ما يعبّر عن الامتدادين الزمنيين، السابق والحالي: "من المهم وضع أعمال الإبادة الجماعية في السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال فترة الفصل العنصري الذي دام 75 سنة، واحتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية الذي دام 56 سنة، وحصارها قطاع غزّة المستمر منذ 16 سنة"، انطلاقاً، كما أشار نصّ الدعوى، من المصطلح الذي وضعه المحامي اليهودي رافائيل ليمكين عام 1944، الذي اعتبر الإبادة الجماعية "وضع خطّة منظّمة تتألّف من إجراءات مختلفة تهدف إلى تدمير الأساسات الضرورية لحياة مجموعات قوميّة، بهدف إبادة المجموعات نفسها". في حين تضمّن التعريف القانوني لجريمة الإبادة الجماعية "إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمّد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كلّياً أو جزئياً". نلحظ من التعريفَين شموليةً أوسع من المفهوم السائد عن الإبادة الجماعية، لتشمل أيَّ عملٍ يهدف إلى تدمير أساسيات الحياة، مثل تسميم الآبار، وحرق المحاصيل، ودفن النفايات، وهدم البنى التحتية، وهدم المنازل والمنشآت السكنية، وخنق الاقتصاد المحلّي، كما لا يشترط تطبيق هذه الإجراءات على كامل الجماعة، أو المجموعة السكّانية، أو المجموعة القوميّة، بل يكفي تطبيقها على جزءٍ منها في بقعةٍ جغرافيةٍ ما، مدينة أو بلدة أو حتّى حي، وهو ما دفع جنوب أفريقيا إلى ربط الإبادة الجماعية ببدايات الاحتلال، وعدم الاكتفاء بلحظته الراهنة فقط.
نحن أمام نظام إبادة جماعية إسرائيلي كامل الأوصاف، بكلّ ما يتضمّنه التوصيف من معانٍ قانونيةٍ ومفاهيميةٍ ووصفيةٍ
أخيراً، نجد ممّا سبق كلّه أنّ تورّط الاحتلال الصهيوني بإبادة شعب فلسطين الأصلي جماعياً فعلٌ سابقٌ لـ7 أكتوبر (2023)، فهو سلوكٌ متضمّنٌ في جميع ممارسات الاحتلال منذ بداياته الأولى، التي تعود بنا إلى نكبة فلسطين، وربّما قبلها، في الجرائم المرتكبة عبر العصابات الصهيونية بناءً على توجيهات قادة الاحتلال وتعليماتهم، أو على يد جيش الاحتلال وقواته الأمنية والشرطية، بعد تأسيس منظومة الاحتلال الأمنية والعسكرية، سواء عبر عمليات القتل الجماعي الممنهج، أو الترهيب المباشر وغير المباشر، أو عبر تقويض إمكانيات بقاء الفلسطيني المادّية منها والمعنوية، وسواها من الجرائم والممارسات الصهيونية القديمة منها والجديدة.
بناءً عليه، يعتقد كاتب هذه السطور أنّنا أمام نظام إبادة جماعية كامل الأوصاف، بكلّ ما يتضمّنه التوصيف من معانٍ قانونيةٍ ومفاهيميةٍ ووصفيةٍ، فضلاً عما يتضمّنه من جرائمَ متعدّدةٍ ومتكاملةٍ، مثل الفصل العنصري والتطهير العرقي والتهجير القسري والقتل الجماعي والعقاب الجماعي والتجويع والمحوين الثقافي والمعنوي. وهو ما عبّرت عنه بعض التظاهرات العالمية، أو بعض المتظاهرين في الحدّ الأدنى، الذين وصفوا الاحتلال الصهيوني بنظام الإبادة الجماعية، مطالبين شعوبَ العالم بالتكاتف والتعاون على هدمه، كما تعاونوا سابقاً على هدم نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي، منطلقين من أنّ نظام الإبادة الجماعية أخطر وأسوء من نظام الفصل العنصري، بل يتضمّنه في ثناياه. من هنا، على الفلسطينيين أيضاً، فصائلَ وأفراداً، تعريف الاحتلال الصهيوني بـ"نظام إبادةٍ جماعيةٍ" لفضح ممارساته الممتدّة منذ النكبة حتّى اللحظة الراهنة، وعدم الاكتفاء بفضح جرائم آخر عدوان عليهم، المتواصل حتّى الآن. فالاحتلال الصهيوني، وبكلّ حقٍّ، نظامُ إبادةٍ جماعيةٍ ممتدٌّ منذ عام 1948.