واهجرهم هجراً جميلاً
في كل مرّة أفتح فيها المصحف الشريف، لأقرأ منه ما تيسّر لي، أجدني وقد توقّفت عند واحدة أو أكثر من الآيات، وكأنني أقرأها للمرّة الأولى في حياتي. أحاول أن أسبر غورها بالتأمّل وحده، أحيانا وبالعودة إلى التفسيرات التي أفضّلها أحيانا أخرى.
قبل أيام، كنت أقرأ في سورة المزمل، فوقفت عند الآية العاشرة من السورة: "وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا". ورغم أنني كنتُ قد قرأت تلك الآية عشرات أو ربما مئات المرّات، إلا أنني وجدتُها في هذه المرّة مختلفة، ربما لأنها ذكّرتني بمواقف عشتها في الآونة الأخيرة من تلقّي الأذى بالقول، والصبر عليه أحيانا، أو مجاراته أحيانا أخرى بما يشبهه. هل هي رسالةٌ في الوقت المناسب لي لإعادة التفكير بكثير من العلاقات التي تربطني بآخرين حولي، وأحتار أحيانا في التصرّف حيالها عند منحنيات معيّنة أشعر بالوجع منها؟ ربما.. ولهذا فقد أعدتُ قراءة تلك الآية أكثر من مرّة، متسائلة عن معنى الهجر الجميل، وكيف يمكنُنا أن نهجرهم هجرا جميلا؟ ولماذا نُقدم على ذلك، ما دمنا قد نلنا من أذاهم ما جعلنا نقرّر مقاطعتهم في النهاية؟ وهل يمكن أن يكون الهجر جميلا أحيانا؟ ولماذا لا نكتفي بالصبر على ما يقولون من كلامٍ يؤذينا، ما دمنا قادرين على الصبر وتجاوز ما يقال؟ وما الفائدة من الصبر، إذن، ما دمنا سنغادرهم ونتخلّص من وجودهم في حياتنا بالهجر الجميل؟
من الواضح أن هذا التوجيه القرآني الشامل، على إيجازه اللغوي الشديد، في تلك الآية، يقسم رد الفعل المثالي منّا على المسيئين لنا بالقول، تحديدا، إلى مرحلتين، يمكننا أن نبادر إليهما واحدةً بعد الأخرى، أو الاكتفاء بواحدة إن نجحت في تحقيق سلامنا الداخلي مع أنفسنا، ثم في تحجيم علاقاتنا مع المسيئين إلينا، من خلال الصبر والهجر.
تُعلمنا الآية أولاً الصبر على ما يقولون، وهذا يعني أنه عندما يتحدّث الآخرون عنا أو يحدثوننا بطريقة سلبية أو يسيئون الظن بنا، قصداً، فإننا ينبغي أن نحتفظ بالهدوء وأن نحاول عدم الردّ عليهم بالطريقة نفسها، فالصبر سلاحنا الأمضى في هذه الحالات، وهو ما يمكن أن يمنحنا القوة والثقة في أنفسنا، ويجعلنا قادرين على التفكير السليم وعلى اتخاذ القرارات المناسبة بهدوء وحكمة، بعيدا عن طيش اللحظات الأولى في ردود الفعل غالبا، ما يحمينا من الشعور بالندم لاحقا.
وهي تحثّنا أيضا على أن نهجر أولئك الآخرين بطريقة جميلة، وهذا مهمّ جدا لنا ولهم وللمحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه، وهو يعني أن علينا التصرّف بذكاء وحكمة وأدب، عندما نقف أمام أشخاصٍ يحاولون إثارة الفتنة والتخريب في حياتنا من خلال ما يقولونه من أكاذيب أو أقوال جارحة، وهم يتعمّدون ذلك، بغضّ النظر عن حجم الأذى الذي نشعر به في تلك اللحظات القاسية، فكثيرون يجرحون مشاعرنا ويقولون قولا سيئا بالنسبة لنا، ولكننا نتقبّل منهم الأذى، لأننا موقنون أنهم لا يقصدون سوى مصلحتنا، حتى وإن أخطأوا بالطريقة والأسلوب، وهؤلاء لا يستحقّون الهجر باعتباره عقوبة لنا ولهم. ذلك أنهم لا يقصدون السوء في أقوالهم، مهما آذتنا فعلا.
الصبر والهجر الجميل إذن أسلوب نبيل للرد على الأذى المحقق والمباشر والمقصود لذاته، وهو يقينا نحن أولا من الشعور بالثقل والتراكم السلبي في المشاعر والعلاقات، ويشجّعنا على مغادرة مواقف الخذلان ومحطّات الأسى وأصحابها بخفّة ومن دون تعلق لا يؤدّي، في النهاية، إلا إلى مزيد منها. ...، فنصبر إذن على الأذى في القول قدر استطاعتنا تحمّل ذلك، وإلا فالهجر الجميل هو الحل سبيلا للردّ على ما يقولون.