واشنطن – موسكو .. معركة كسر عظم

02 فبراير 2022
+ الخط -

جاء الحشد العسكري الروسي الكبير على الحدود الأوكرانية في إطار خطّة تهدف إلى الضغط على الولايات المتحدة، لدفعها إلى القبول بإعادة النظر في اتفاقات إنهاء الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفييتي؛ وما تلاها بعد انهيار الأخير من تمدّد حلف شمال الأطلسي (الناتو) نحو الحدود الغربية لروسيا الاتحادية، ونشره موارد عسكرية كبيرة في دول شرق أوروبا التي كانت جزءا من الكتلة الشيوعية وحلف وارسو، فالقيادة الروسية ترى هذه الاتفاقات أضرّت بالمصالح الروسية، وأن "الحلف" قد حنث بوعده وتمدّد في دول شرق أوروبا وهدّد أمن روسيا القومي. وقد تجسّدت هذه المطالب بوضوح في مباحثاتها مع الولايات المتحدة و"الحلف" أخيرا، حيث طالبت بـ التزامات مكتوبة بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا إلى "الحلف"، وسحب قوات "الحلف" وأسلحته من دول أوروبا الشرقية التي انضمت إليه بعد عام 1997، ولا سيما من رومانيا وبلغاريا. طلبات قرنتها بتهديد باتخاذ إجراءاتٍ تقنية؛ لم تحدّد طبيعتها؛ وبتحذير من التداعيات الأكثر خطورةً في حال جرى تجاهل قلقها المشروع.

لم تكتف القيادة الروسية بحشد قواتٍ كبيرة على الحدود مع أوكرانيا، تباينت تقديرات المراقبين حول عديدها بين مائة ألف جندي و175 ألفا، وعتاد ثقيل، بل دفعت بقوات إضافية إلى الأراضي البيلاروسية بحيث تطوّق أوكرانيا من ثلاث جهات. وأجرت مناورات عسكرية، برّية وبحرية، في شبه جزيرة القرم وبحر بارنتس، وأعلنت عن بدء مناورات ضخمة في بحر البلطيق بمشاركة 20 سفينة حربية، وعن مناورات كبيرة، 140 سفينة وعشرة آلاف بحار، بالذخيرة الحية ستجريها في شهر فبراير/ شباط الجاري في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك قبالة الساحل الأيرلندي، بهدف "حماية المصالح الوطنية لروسيا في محيطات العالم"، وفق إعلان وزارة الدفاع الروسية، وأجرت مناوراتٍ بحريةً في بحر عُمان مع قوات بحرية صينية وإيرانية. وبدأت بحشد قوات بحرية في البحر الأبيض المتوسط، فبالإضافة إلى الأسطول الروسي المتمركز في ميناء طرطوس السوري، والمؤلف من عشر سفن، تتوجه إليه ست سفن إنزال كبيرة عبر بحر المانش ومضيق جبل طارق، كما تتوجّه حاملة صواريخ كروز "فارياغ" التابعة لأسطول حرس المحيط الهادئ وسفينة الأدميرال تيربوتس الكبيرة المضادّة للغواصات، والناقلة البحرية الكبيرة بوريس بوتوما نحو سورية عبر البحر الأحمر وقناة السويس، لاستعراض القوة قرب الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونشر 12 منظومة صاروخية مضادّة للطائرات من طراز إس 400 في بيلاروسيا، وإرسال طائرات سو35 إلى هناك لإجراء تدريبات جوية.

لم تكتف القيادة الروسية بحشد قواتٍ كبيرة على الحدود مع أوكرانيا، بل دفعت بقوات إضافية إلى الأراضي البيلاروسية بحيث تطوّق أوكرانيا من ثلاث جهات

لم يكن تمدّد "الحلف" ونشره موارد عسكرية في دول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى صفوفه جديدا أو طارئا، ولكن الجديد والطارئ ما استنتجته القيادة الروسية من معطيات اللحظة السياسية: الارتباك والضعف الذي تشهده الإدارة الأميركية نتيجة الانقسام المجتمعي والخلافات السياسية الحادّة داخل النخبة الأميركية وأحزابها ومؤسساتها بشأن سبل مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية، وإعطاء الولايات المتحدة جل اهتمامها لمواجهة الصعود الصيني، وانشغالها بتخصيص الموارد السياسية والعسكرية لهذا الهدف، وتعدّد الملفات الساخنة التي تواجهها وما تنطوي عليه من احتمالات خطيرة، وما تستدعيه من تخصيص موارد ضخمة لكل ملفٍّ يرفض الرأي العام الأميركي هدرها على قضايا خارجية، بينما يحتاجها الداخل الوطني، وأعراض ضعف أميركية عكستها مجموعة مؤشّرات سياسية وعسكرية: أولها سياسة الإدارة الأميركية عدم استفزاز روسيا. ثانيها، تحفظ دول في التحالف الغربي على التوجه الأميركي وخططه للتعاطي مع التحدّيات الخارجية، روسيا والصين وإيران، ومحاولتها تجنّب المخاطر في ضوء مصالحها مع هذه الدول وتبعات جائحة كورونا وانعكاسها الاقتصادي والاجتماعي، بما في ذلك ارتفاع سعر النفط والغاز، والتغيرات البيئية. ثالثها، وجود قوى وازنة، الصين وإيران، تناصب النظام الدولي الليبرالي العداء، وتتبنى موقفا مضادّا ومتحدّيا لزعامة الولايات المتحدة لهذا النظام؛ وترغب في رسم معالم نظام دولي بديل. رابعها، وجود سند اقتصادي قوي، الصين، تستطيع الاعتماد عليه لمواجهة العقوبات الغربية المتوقعة. خامسها وأهمها، ردّها الضعيف على اجتياحها أراضي جورجيا عام 2008 واحتلت شبه جزيرة القرم عام 2014 وضمتها، ودعمها روسيا في شرق أوكرانيا لإقامة جمهوريتين شعبيتين: دونيتسك ولوهانسك، ما يشير إلى نجاح استخدام القوة في تحقيق مكاسب جيوسياسية وإمكانية استخدامها لإقناع القادة الغربيين بإعادة التفاوض حول الحدود والنفوذ في القارّة الأوروبية.

تعزّزت المشاعر الأوكرانية المعادية لروسيا، بما في ذلك استبدال اللغة الأوكرانية بالروسية في الحديث اليومي والصحف والانفصال عن الكنسية الروسية

جاء الرد الغربي على غير ما قدّرت القيادة الروسية، حيث ذهبت المواقف الغربية المعلنة نحو التصعيدين، السياسي والعسكري. لقد استنتجت القيادات الغربية أن تنمّر القيادة الروسية واستفزازاتها المتتالية نجمت عن قراءتها الذاتية لعدم ردّها على هذه الاستفزازات واعتباره ضعفا فتمادت في استفزازاتها؛ لذا قرّرت الرد بما يعيد القيادة الروسية إلى واقعها ورشدها، ويلجم اندفاعها فعقدت اجتماعاتٍ متتالية لدول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقرّرت الرد على الخطوة الروسية بالتمسّك بحق أوكرانيا وجورجيا بالاختيار، وبدأت بحشد موارد عسكرية في دول شرق أوروبا وبتعزيز قدرات أوكرانيا العسكرية والمالية على مواجهة أي غزو روسي محتمل. أعلن الحلف أن بعض الدول الأعضاء وضعت قواتها في حالة تأهب، وأرسلت سفنا وطائرات مقاتلة إضافية إلى أوروبا الشرقية لطمأنة الحلفاء هناك، عرضت فرنسا إرسال قوات إلى رومانيا؛ وأرسلت الدنمارك فرقاطة وطائرات إف 16 إلى ليتوانيا، وأرسلت هولندا طائرتين من طراز إف 35 إلى بلغاريا، كما وضعت سفنا ووحدات برّية في حالة تأهب للمشاركة في قوة الرد السريع، ودعمت إسبانيا انتشارها البحري في البلطيق، ووضعت الولايات المتحدة 8500 جندي في قواعدها في تكساس وفورت هود ولويس ماكورد وفورت بولك وقاعدة دافيس مونتان الجوية في أريزونا في حالة تأهبٍ قصوى، استعدادا لانتشار محتمل في أوروبا الشرقية، ولمحت إلى إمكانية تغيير انتشار أكثر من 60 ألف جندي أميركي يتمركزون في أوروبا، "دفع الكثير من الأصول العسكرية الأميركية إلى عتبة باب بوتين"، وفق اقتراح قدمه البنتاغون للرئيس الأميركي، وبدء مناوراتٍ بحريةٍ وبريةٍ لقوات الحلف في إستونيا تستمر أسبوعين، لاختبار فعالية التنسيق بين القوات البرية والبحرية. وأرسلت دول في الحلف، ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، أسلحة إلى أوكرانيا، صواريخ أميركية "غافلين" المضادّة للدبابات و"ستينغر" المضادة للطائرات، والمملكة المتحدة نحو 1600 صاروخ من نوع "أن أل أي دبليو" قصير المدى، والولايات المتحدة طائرتين محملتين بأسلحة مضادة للدبابات وتجهيزات أمنية؛ ووقعت معها اتفاقية للتعاون الأمني؛ ومنحتها مساعدة مالية قيمتها 200 مليون دولار، وأعلن الاتحاد الأوروبي عن مساعدات مالية بنحو 1.2 مليار يورو، أو 1.36 مليار دولار، لمساعدتها خلال هذه الأزمة. وهذا مع تلويح بفرض عقوبات أوروبية قاسية، لم يسبق لها مثيل، وفق إعلان وزارة خارجية الدنمارك، وأميركية ستشمل المصارف الروسية وقيوداً غير مسبوقة على صادرات معدات التقنية الأميركية المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتقنية صناعة الطيران، وهو ما "سيضرب بشدة طموحات الرئيس الروسي الاستراتيجية لتحويل اقتصاده نحو التصنيع"، وفق مسؤول أميركي رفيع، كما ستشمل، العقوبات، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نفسه. مشهد يعيد إلى الأذهان صور التحرّك الغربي ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان.

وقد بدأت الحكومة الأوكرانية بتحضير مواطنيها للحرب، عبر منشورات عن تعليمات الإسعافات الأولية وتفسير الحرب للأطفال وتدريب المدنيين، بمن في ذلك النساء والأطفال، على استخدام الأسلحة والدفاع المدني وحرب العصابات. وقال ثلث المشاركين، في استطلاع أجري في نهاية العام الماضي، إنهم سيحملون السلاح إذا غزا الروس بلادهم، وقد امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي الأوكرانية بهاشتاغات تعلن استعداد الأوكرانيين للحرب، منها هاشتاغ "نحن مستعدون". ووجدت القيادة الروسية نفسها في موقفٍ حرج، في ضوء التصعيد الجماعي الغربي، وصفته بالهستيري، والموقف الموحد الرافض لطلباتها بإعادة النظر في اتفاقات إنهاء الحرب الباردة وسحب قوات الحلف وموارده العسكرية من دول شرق أوروبا ونشرها على الحدود التي كانت عليها عام 1997، واعتبرت التلويح بفرض عقوباتٍ على الرئيس الروسي تجاوزا للخطوط الحمر، "هذا الأمر ليس مؤلماً بل مدمر"، وفق المتحدّث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، وندّدت بوضع آلاف الجنود الأميركيين في حالة تأهب قصوى، وسحب عائلات الدبلوماسيين من أوكرانيا باعتباره تصعيداً للتوتر.

غزو أوكرانيا وصفة لحربٍ طويلةٍ يقف فيها الغرب إلى جانب الأوكرانيين، يمدّهم بالأسلحة والأموال لاستنزاف روسيا وإنهاكها

اكتشفت القيادة الروسية أن حشدها المدرعات والصواريخ على أبواب أوكرانيا ردّا على سعي الأخيرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي قد أجّج النزعة القومية الأوكرانية وقوّى الموقف الأوكراني الداعي إلى التوجّه غربا، من جهة، وأيقظ وحفّز الردع الغربي الذي بقي متراخياً بعد نهاية الحرب الباردة، من جهة ثانية، فغزو روسيا شبه جزيرة القرم وضمها، ودعمها وحمايتها للجيبين الانفصاليين في الدونباس، أفرزت عكس ما قصدته، إذ إنها عزّزت المشاعر الأوكرانية المعادية لروسيا، بما في ذلك استبدال اللغة الأوكرانية بالروسية في الحديث اليومي والصحف والانفصال عن الكنسية الروسية وتغيير أسماء المدن والشوارع السوفييتية إلى أسماء أوكرانية وتحطيم تماثيل لينين لمحو كل بقايا العهد السوفييتي وتكريس هوية وطنية خاصة، وجعلت أوكرانيا تتمسّك بخيارها الغربي أكثر، كما أدّت الأزمة الحالية إلى عكس ما سعت إليه: تقسيم الغرب، حيث أدّت إلى وحدته وتماسكه.

لقد أوقعت القيادة الروسية نفسها في مأزق، فالأهداف التي تسعى إليها لا يمكن الحصول عليها بالدبلوماسية؛ والذهاب إلى الحرب غير محمود العواقب، فغزو أوكرانيا وصفة لحربٍ طويلةٍ يقف فيها الغرب إلى جانب الأوكرانيين، يمدّهم بالأسلحة والأموال لاستنزاف روسيا وإنهاكها، دون استبعاد إمكانية توسعها وامتدادها خارج أوكرانيا وتحولها إلى حرب شاملة، مع ما تنطوي عليه من احتمالات وقوع خسائر بشرية ومادية كبيرة، ستنعكس سلبا على القيادة الروسية ومستقبلها السياسي والشخصي، فالذهاب إلى الحرب ليس خيارا سهلا، وسحب القوات فيه مهانة وإذلال.