هويّات الفقد تغيّر سورية
اجتمع بشار الأسد في دمشق، أخيراً، مع ثلّة من الأشخاص القادمين من دولٍ عربيّة، يُمثّلون اتحادات الكتّاب في بلدانهم، وكان المُضيف يُحاضر في "خطورة ضياع الهويّة في المنطقة العربيّة" وأنّ ما يحدث في سورية "ليس حرباً عليها بالمعنى الضيّق؛ بل هي حرب على الانتماء" والكلام هنا لحليفٍ بارزٍ لإيران في المنطقة العربيّة، يحتضن مليشياتها الطائفيّة على الأراضي السوريّة ويستخدمها في حربه ضد الشعب، وذلك يناقض مفهوم الانتماء المزعوم. ويعزّز هذا الزعم مسألة ارتفاع رصيد السقوط الأخلاقيّ لهؤلاء الذين يشكلون أفرعاً أمنيّة تحت مسميّات الثقافة، واتحادات لمراقبة الكتّاب والتأكد من تلوّثهم المستمر بالسكوت عن طغيان هذا النظام الذي دمّر معظم البلاد.
يعطي ما سبق مؤشّراً أيضاً على زيادة رغبات التطبيع العربيّة مع نظام الأسد، ولعلّ آخر ما حُرّر في ذلك "افتتاح معرض للقطع الأثريّة والتراثيّة العُمانيّة في متحف حلب الوطنيّ" بحسب ما نقلت وكالة النظام "سانا"... لا أدري ما شأن حلب بمعرض عن تراث "سلطنة عُمان" سوى تقديم فرصةٍ مُضَافةٍ لمسح الهويّة السوريّة حسب تحالفات الأسد!
يرتبط التراث الإنسانيّ للشعوب، تاريخيّاً، بمعنى الوجود الثقافيّ والفكريّ والماديّ، وبالتالي القدرة على التأثير والنهوض الفعلي بالمجتمعات. وتلعب الأنظمة السياسيّة وقواها العسكريّة في ذلك دوراً كبيراً، حين تهتمّ بالإبقاء على التُراث والحقائق المُتسلسلة لحكايات الأمم في المنطقة، أو حين تسمح بتشويهها مقابل البقاء في السلطة وتقديم كلّ التسهيلات لعقود التحالف الأجنبيّة؛ لنشر هويّات مضادّة، فتصبح هذه السلطة طاغيةً وعدوّةً للشعب والتاريخ.
تُرى، متى صار سؤال الهويّة في سورية على المِحكّ؟ ربّما كان ذلك الظهور متعلقاً، نوعاً ما، بمفهوم وجود السوريّ مواطناً، لم يَعُد في وسعه إلّا الاحتجاج، وطوال السّنوات العشر التالية لم يتبلور جوابٌ واضحٌ لماهيّة الهويّة، لأسباب ديموغرافيّة وسياسيّة حجّمت مفهوم المواطنة، وكانت مبنيّةً على ضرورة خضوع المجتمع لنظام شموليّ عسكريّ متيناً للغاية. وبشكل أو بآخر، أصبح معظم من بقي تحت سلطة النظام من مناطق وكيانات وبشر مدفوعين، برضاهم أو دونه، كي يكونوا ممثّلين لهويّة بلدٍ تتناوب على تشويه وقائعه دولٌ تُسيّر مصالحها على حساب الإنسان السوري وتراثه بمختلف أشكاله. الإنسان الذي رفض الحكم العسكريّ ضد الشعب، وأصبح هو وأكثر من سبعة ملايين شخص فقدوا بيوتهم وذاكرتهم وهوياتهم وانتماءاتهم، مجرّد لاجئين صنعتهم تحالفات النفي تلك مع هذا النظام.
وتبدو اليوم عبارة "أطراف الصراع" في سورية اختزالاً فضفاضاً لوصف زحامٍ من الكيانات تتقاتل على الأرض؛ فمعظم فصائل المعارضة المسلّحة ترزح تحت ولاءاتٍ لتركيا، والمليشيات ذات التوجّه الشيعيّ تحكمها عقيدة تابعة لإيران ومصالحها، بينما يتوزّع جيش نظام الأسد بين ولاءات لروسيا وأخرى لإيران وثالثة دوليّة إقليميّة، وأحياناً يقاتل ذاك الجيش ومليشياته الرديفة في حروب حلفائه خارج حدود سورية.
لبست الثقافة في عهد النظام في سورية، وتحت وصايته، كثيراً من أثواب الاستغلال والتنكيل بالحريّات والناس
وإذا افترضنا أنّ كلّ تلك الأطراف تقود صراعاتٍ استراتيجيّة عقائديّة، مُرتزقة أو سواها، فإنّها تعمّق مسح الهويّة السوريّة، وتساهم بصناعة هويّات بنكهاتٍ هجينة، منها مثلاً هويّة "الخلافة الإسلاميّة" المزعومة، حسب ما يريد زعيم تحرير الشام في إدلب، أبو محمد الجولاني، أو هوية أخرى قيصرية لاستعادة مجد روسيا حسب فلاديمير بوتين، والأكثر خطورة تتفرع بين هوية مناطقية توجهها تركيا في المساحات التي تسيطر عليها شمال سورية، وهوية تنزع عن سورية تنوّعها وتردّها إلى الطائفيّة أكثر حسب ما يخدم إيران، ويمكن إضافة هوية قوميّة متخبّطة ومُخترقة تحاول أن تكون كرديّة، فيما تجعلها الولايات المتحدة ونظام الأسد مجرّد حجارة مؤقتة لمشروع مصالح مشتركة.
كلّ تلك الدول وكلّ هذه التحالفات، وجوه صراع دينيّ وسياسيّ وتاريخيّ وثقافيّ، نسفُ جغرافيّات كاملة، إفناء عائلات عن الوجود، مسحٌ ثقافيٌّ للتنوّع التاريخي الذي كانت سورية، قبل نظام الأسد، تعيشه عبر التاريخ، وبعد أربعة عقود توّج النظام خراب البلاد، فتح حرباً على الحريّة عام 2011، قتل كلّ سوريّ أراد أن يبحث عن هويّته بعد أن كسّر قطعة الطائفيّة البلاستيكيّة المحمولة في جيوب ملايين السوريين، والتي يسمّيها النظام "بطاقةً شخصيّة"، بطاقة الخانات وقيود النفوس، لعلنا نذكر حواجز الأمن في مدن سورية ودورها في استمراريّة التفرقة بأدوات الخوف والإرهاب، كيف كانت تعتقل أي عابر كُتب عليه أن يكون من المناطق المنتفضة ضدّ الأسد.
تبدو اليوم عبارة "أطراف الصراع" في سورية اختزالاً فضفاضاً لوصف زحامٍ من الكيانات تتقاتل على الأرض
لقد لبست الثقافة في عهد النظام، وتحت وصايته، كثيراً من أثواب الاستغلال والتنكيل بالحريّات والناس، وأصبح دورها مثل أيّةِ أداةٍ سياسيّة توظّفها آلة الدعاية لترويج خطابٍ إقصاء المعارضين وشيطنتهم والقضاء على المناطق المحرّرة، بيد أن تلك المناطق أعادت معظم فصائلها، منذ بداية الثورة، إنتاج الطغيان الموروث، نظراً إلى غياب التجربة السياسيّة الحرّة والعمل المدنيّ والعدالة، وكانت الثقافة بين فكي المراجع الاجتماعيّة الدينيّة المنغلقة من جهة، والاعتياد المدنيّ على طاعة صاحب السلطة والسلاح والنفوذ الاقتصادي، من جهة أخرى. وبالتالي، لم تُمنح الثقافة الفرصة الطبيعيّة لتكون حرّة حسب الوعي الذي رافق صرخات الثورة والبحث عن هويّة السوريّ المفقودة.
وإذا كان مجمل من يقدّمون أنفسهم على أنّهم "كتّاب"، ويعملون في الثقافة، قد عَموا الأبصار عن الدماء السوريّة وعشرات المجازر التي لم تتوقف طوال هذه الحرب، فإنّ الرسالة المُهينة التي يحملها هؤلاء للعالم سوف تكون أكثر سوءاً وعنفاً وانحطاطاً من هوية القاتل.
والقاتل نعرف تماماً أنّه يحمل سلاحاً ولديه فكر إجراميّ، ونواياه في البقاء على قمّة جماجم وبيوت أبناء بلده واضحة، فقط من أجل الحكم؛ لأنّ الفكر لديه مسنود بالظلم والعمالة والرعب، بينما فكر الثقافة الإنسانيّة الحقّة، هو في حال معاكسة تماماً، إنما يسعى إلى حفظ كرامة الإنسان ولمساندة المستضعفين ولرفع الصوت من أجل الحريّة ضد الطاغية، للعدالة، للمساواة، لنصرة الناس ضد العسكر... لا أن يجالس هؤلاء، المحسوبون على الثقافة، طاغية في قصره، يداه تقطّران دماً وضحايا، يتحدّث عن الهويّة والانتماء، وهو سفير فوق العادة لإيران وروسيا وحلفائهما في سورية!