هل يتعلّم السوريون من الانتخابات التركية؟

21 مايو 2023

ورقة انتخابية في القنصلية التركية في تورنتو في كندا (20/5/2023/الأناضول)

+ الخط -

أجيالٌ كاملة في سورية لم تمارس الانتخاب الديمقراطي. كانت تتدبّر شؤونها، كأن تحصل على وظيفةٍ أو بعثة أو تسيير معاملة ما، عبر آليات الفساد والإفساد؛ فهو القانون المسيطر على مؤسسات الدولة السورية، أمّا المتحكّم الفعلي بها، فهي الأجهزة الأمنية، وعبر الأخيرة، تدار الدولة السورية بالمعنى الواقعي، وطبعاً يرأس المؤسسات والأجهزة الرئيس المطلق الصلاحيات والسلطات، ولا أهمية حقيقية للدستور، وللقوانين، وبالطبع لا استقلالية لأيّ سلطات في بلادنا.

بالتأكيد، ذُهل السوريون الذي هُجّروا، أو اختاروا تركيا للإقامة، من المساواة في ممارسة الحق الانتخابي. إنّ الكتل السياسية، والتحالفات، تصرّح وتختلف وتؤكّد وترفض وتَعِدْ وتُحجِم، وذلك كله عبر برامجها الانتخابية والتصريحات الإعلامية. وهذه الحقوق لا تخص كتلة حزب العدالة والتنمية، بل كذلك الأحزاب المعارضة. رأى السوريون ذلك كله، وهذه ليست المرّة الأولى طبعاً، وأنَّ الانتخابات التي جرت مُورست من دون صداماتٍ بين الأهالي، ومن دون طبلٍ وزمرٍ ودبكات ونخٍّ على الركب ومن دون تدخلٍ أمنيٍّ، والأهم من دون خوفٍ من المقترعين. يا للخوف الذي كنّا نعيشه، حينما تقترب الانتخابات الرئاسية بالتحديد، فأغلب المعارضين كانوا يقبعون في منازلهم، ويأكلهم القلق والخوف ساعاتٍ وساعات، ولطالما قام أقارب هؤلاء بالانتخاب عنهم من دون معرفتهم؛ من وقاحات أجهزة الأمن، أنّها كانت تفرض الانتخاب على المعتقلين السياسيين وفي معتقلاتهم!

ذُهل السوريون الذي هُجّروا، أو اختاروا تركيا للإقامة، من المساواة في ممارسة الحق الانتخابي

 

حين توفي حافظ الأسد، حدث فراغ رهيب في مؤسسات الدولة، وتعطّلت، وحتى الشرطة لم تعد تقوم بواجبات تنظيم السير. هكذا تكون البلاد حينما تغيب الحقوق عن الشعب، ويصبح الحاكم "إلهاً". هل سيتعلم السوريون شيئاً من العملية الديمقراطية في تركيا، وقد شهِدوا الانتخابات، والتحوّل نحو النظام الرئاسي في تركيا من قبل، والصراع بين المعارضة وحزب العدالة والتنمية حول ذلك، وعايشوا المنافسة الديمقراطية بين الكتل على أدقّ التفاصيل. هل سيعترفون للآخر بحقّه في الممارسة، والاختلاف، والدفاع عن رؤاه، وبرنامجه، وفي مختلف القضايا، وحتى في الممارسة الدينية، قبولاً أو رفضاً.

لا يتعلّم المرء بشكلٍ جاد إلّا في الممارسة. سارع الشيخ أكرم راجح، شيخ قرّاء الشام "المعارض"، والمجلس الإسلامي السوري إلى تصدير بيانات لتأييد أردوغان وائتلافه، وأنّ واجب السوريين المجنسين انتخابه. هذا فعل خاطئ، ويوضح أنّ السوريين لم يتعلموا ضرورة عدم إشراك الدين في السياسة. وهناك شخصيات أخرى، ومجموعات إسلامية سورية قامت بالفعل ذاته. علاقة الدين بالسياسة والدولة، سيما بقضية ممارسة الديمقراطية والانتخابات قضية شائكة، وهناك نقاش كبير لم ينتهِ بأن الانتخابات التي توافق عليها القوى الإسلامية هي انتخابات المرّة الواحدة، أي توصلهم إلى الحكم، ومن ثم تتحكّم بالسلطة وبالعباد. هذا لم يعد قائماً كما يبدو، وهناك أغلبية من القوى الإسلامية، تؤكّد على الممارسة الانتخابية، والعملية الديمقراطية، وإن كانت ما لزال تؤكّد أن الشريعة هي المصدر الاوّل للدستور؛ أردوغان وحزب، وهناك في الضفة الأخرى المواجهة له إسلاميون أيضاً، والجميع يؤكّد ضرورة الانتخاب وإبعاد الدين عن السياسة، ولم نشاهد تدخلاً دينياً تركيّاً في الانتخابات الأخيرة.

التعلّم يفيد في مراكمة الخبرات الديمقراطية، والاعتراف بحقوق الناس والقوى السياسية بالاختلاف.

التجربة التركية مهمة للسوريين، وللعالم الإسلامي، وتقول إنّ الديمقراطية ليست لمرّة واحدة، ويجب ألا تتدخل فيها المؤسسات الدينية أو رجال الدين بالإفتاء مع أو ضد، فهذا تسييس، قد يُدخِل المجتمع بمشكلات كبرى، ونقصد الإفتاء والافتاء المضاد، أو خلافات بين الجماعات الأهلية؛ وعدا ذلك، فإن الديمقراطية ليس من مرجعياتها الإفتاء الديني، بجوازها أو بعدمه.

في حال انتصار المعارضة التركية، وهذا ما لن يكون كما يبدو، سيكون وبالاً على السوريين؛ فالكتل المتنافسة في تركيا تراقب مواقف السوريين جيداً، وموضوع اللاجئين هو من القضايا الرئيسية في أوراقهم الانتخابية للوصول للسلطة وكذلك في قضايا الدعاية الانتخابية والتحشيد الحزبي، والمواقف اليومية للساسة، فهل يَفهم السوريين ذلك، ويلوذون بالصمت. عدا ذلك، هناك سياسة ثابتة ومنذ 2017 لأردوغان وحزبه وتحالفاته للتعامل مع اللاجئين، والسوريين عامة عبر التحالف مع روسيا، وضمن إشراف الدول الضامنة لمسار استانة، وقد كان لتركيا دوراً كبيراً في تسهيل تسليم مناطق خفض التصعيد وتهجير الأهالي وبالتالي، ورغم عدائية أغلبية قوى الكتلة المناهضة الرئيسية "لأردوغان" وللسوريين، فهذا لا يجب أن يدفع بعض السوريين إلى تأييد هذه الجهة أو تلك، ولا نقصد المجنسين هنا؛ فهؤلاء لهم كامل الحق بالانتخاب، والاختيار، فهم الآن مواطنون أتراك.

أن يعيش السوريون أكثر من خمسة عقود من دون ممارسة الديمقراطية، وبصمتٍ إجباري عن قول كلمة: لا، فهذا يعني أنّ علاقتهم بالانتخابات والتنافس "الشريف" واحترام حق الآخر بالاختلاف في غاية التعقيد، والقصد أنّهم لم ينتقلوا بعد بتفكيرهم من عقلية الرعايا إلى المواطنين، من الاعتماد على الأسرة والجماعة الدينية والعشيرة والمنطقة والقومية إلى الاعتماد إلى العقل والاختيار الفردي وممارسة الاختلاف.

هل يستفيد، من في الخارج أو الداخل، من الانتخابات التركية، ويعي أهمية الديمقراطية والانتخاب واحترام الاختلاف؟

قام السوريون بثورة كبيرة في 2011، لكنّهم لم يكونوا على درايةٍ جيدة بالعملية الديمقراطية، وتجربة ما بعد ذلك العام وإلى 2023، لم تكن فيها أيّ انتخابات تُذكر في مؤسسات الثورة والمعارضة؛ كلّها كانت تجرى بالتزكية أو كانت هامشية، وقواها هامشية كذلك. ووجود ملايين السورين في تركيا وأوروبا وأغلبية الدول، ومنهم من صار ينتخب، ويبكي، نعم يبكي، حينما يفعل ذلك، أقول: ستفيد تلك المشاركات السوريين بالتأكيد، لكنّ هؤلاء أصبحوا أتراكاً أو ألماناً أو فرنسيين، أو أو، وبالتالي لن تعود أغلبيتهم إلى البلاد، ولن يمارسوا الانتخابات فيها، بينما من سيعود قد لا يتعلم الكثير عن العملية الانتخابية والديمقراطية والتنافس والاختلاف وسواه.

هناك جولة ثانية، في 28 مايو/ أيار الجاري، من الانتخابات التركية، وهي فترة مناسبة ليراقب السوريون أحداثها ومراجعة وقائع الجولة الأوّلى، والتعلّم منها، وبعيداً عن الولاء لأردوغان، أو انتقاد الكتلة المعارضة له. التعلّم يفيد في مراكمة الخبرات الديمقراطية، والاعتراف بحقوق الناس والقوى السياسية بالاختلاف.

لن تكون ساعة العودة إلى سورية من دون ممارسة الانتخابات، والتعايش المشترك، وقد حدث في البلاد ما يعيد الحرب الأهليّة مرّاتٍ ومرات؛ فهل يستفيد، من في الخارج أو الداخل، من الانتخابات التركية، ويعي أهمية الديمقراطية والانتخاب واحترام الاختلاف؛ عبر هذه الحقوق والممارسات تتشكّل الدول الحديثة وأنظمتها السياسية، وتقوى وتتقدّم في مختلف مجالات الحياة وتجد المخارج لأزماتها، والسوريون أحوج ما يكونون إليها؟