أين المُعارَضة السورية من التقارب بين النظام وتركيا؟
مُبرّرات وجود المُعارَضة السورية تمثيلها مصالح السوريين جميعاً في سعيها إلى الوصول للسلطة، ولكنّها حين تفتقد الرؤية الوطنية، وتخضع لتركيا بصفة خاصّة، فهي لا تمثّل مصالح الجميع، بدءاً بالشعب الذي ثار وتضرّر وهُجِّر، وهؤلاء هم المعارضون للنظام. ما يحدث من تقاربٍ، وربّما من تطبيعٍ كاملٍ بين تركيا والنظام، يَطرَح السؤال: أين المعارضة مما يجري؟
ترى المعارضة مصالح السوريين من زاوية مصالح تركيا في سورية، ولم تعد تنطلق من مصالح الشعب الثائر والوصول إليها باستقلالٍ عن مصالح تركيا، التي دفعت المُعارَضة إلى الموافقة على التوافقات التي حصلت بين روسيا وتركيا وإيران. أمّا مصلحة الشعب فلم تعد موجودة؛ أي تأمين الدعم لإسقاط النظام وإحداث التغيير السياسي. ارتهنت المعارضة باكراً للمشيئة التركية، والخليجية، والدولية، فهي لم تقرأ تعقيدات الواقع السوري، واكتفت بشعارات عامّة، سمحت للدول بالتدخّل، وللنظام باللعب بالثورة، وعمّت الفوضى، وسيطر الإسلاميون، على اختلاف تيّاراتهم، على الفصائل، وعلى الشعب، وتراجعت الثورة الشعبية، وأصبحت البلاد في حالة حربٍ أهلية، وبالكاد نعثر على بقايا أهداف الثورة بين اللاجئين في الشمال السوري وسكّانه، وفي بلاد المنافي؛ أي تغيير النظام، ورفض التدخّل الخارجي، وإبعاد سيطرة العسكر والإسلاميين عن المناطق المُحرَّرة.
منذ تشكّل المجلس الوطني في 2011، لم يعمل لرؤية وطنية ومشروعٍ سياسي وطني، فكانت سياسته العامة تقتصر على طلب المساعدة الخارجية، والأسوأ أنّه لم يقم بدورٍ قيادي وتمثيلي كامل للثورة، كما القوى كافّة التي لم تنضو فيه، وهذا سمح للقوى المُشكّلة منه، وسواها، بإقامة صلات دولية وإقليمية وعربية انطلاقاً من مصالحها، لا من مصالح الثورة بشكّل عام. غياب مؤسّسات المراقبة عن متابعة أعمال مؤسّسات المُعارَضة هو ما سَهّل هذا الأمر، عدا عن القياس البائس لديها؛ ما دامت أميركا دعمت ثوار ليبيا فانتصروا على معمّر القذّافي، ستُكَرّر الأمر ذاته في سورية. ولا تزال العقلية ذاتها؛ انتظار الدعم الخارجي، ولكن هذه المرّة من أجل مصالح قيادات المُعارَضة الذين أصبحوا بيد تركيا، وكَرَّت المسبحة؛ المشاركة وفقاً للمصالح التركية في أستانة وسوتشي واللجنة الدستورية وهيئة التفاوض، والأسوأ أنّ هذه المنصّات كافّة، وقراراتها وبياناتها وتوافقاتها، تخدم مصالح الاحتلال الروسي لسورية، الذي رفض أشكال المبادرات كافّة للضغط على النظام ولإحداث أيّ شكل من الحوار الجادّ مع المعارضة، أو لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 (نصّ على بدء محادثات سلام في سورية وعلى أنّ الشعب السوري هو من يُقرّر مستقبل البلاد، ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإلى انتخابات برعاية أممية).
لم يعمل المجلس الوطني السوري منذ تشكيله في 2011 من أجل رؤية وطنية ومشروعٍ وطني، فاقتصرت سياسته العامة على طلب المساعدة الخارجية
إنّ خضوع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ومؤسّساته كافّة، والفصائل المدعومة من تركيا العاملة لمصلحتها، قد تطوّر، وبشكل منهجي، منذ 2016 والانسحاب من حلب، والتقارب الحالي بين أنقرة والنظام في دمشق هو نتيجة لذاك المسار ليس إلّا. إذاً، لم يعد من معنى للقول هل سيحصل التقارب أم لا؟
التقارب يتحقّق، ويتطوّر يومياً، وما يمنع السرعة فيه رفض النظام وإيران، وللأخيرة مصالح مختلفة عن روسيا وتركيا في سورية، وأيّ تقاربٍ بين النظام وتركيا ستتضرّر منه إيران، وأيّ عودةٍ للدولة السورية، كما قبل 2011، ستتضرّر منه بالتأكيد. فإذا كانت إيران مُتضرّرة بسبب تقلّص مساحة سيطرتها فسيتضرّر الشعب السوري بشكل أكبر. وإنّ ارتهان المعارضة لتركيا يقول إنّ الأذى سيحصل لا محالة، ولهذا تنتهج الحكومة التركية سياسةَ التفريط بمصالح السوريين (الثوار واللاجئين والمناطق المُحرَّرة)، ففي تركيا هناك سياسة ممنهجة رافضة للاعتراف للسوريين بحقوق اللجوء منذ 2011، تستبدل بها الإقامة المُؤقّتة، وابتزاز أوروبا لتحصيل مليارات الدولارات باسم مساعدة اللاجئين تحت طائلة فتح الحدود للسوريين للوصول إلى أوروبا. من ناحية أخرى، هناك ممارسات يومية عنصرية لدفع السوريين إلى العودة لمناطق الشمال، قبل أحداث قيصري (وسط تركيا) وبعدها. في الأيام الفائتة، تكثّف الضغط على السوريين في تركيا للعودة، ورُحِّل سوريون بقوّة الشرطة. التصريحات التركية، أخيراً، من كبار القادة؛ الرئيس ووزير الخارجية، ومسؤولين آخرين، تُؤكّد بشكل جازم التقارب مع النظام وإعادة العلاقات معه وفقاً لمصالح الدولتَين (سورية وتركيا)، اعتباراً لما كان قبل 2011، أي شرعنة النظام بشكلٍ كامل، والتنسيق بينهما وفقاً لاتفاقية أضنة، وإعادة العلاقات الاقتصادية وفتح المعابر الدولية والداخلية، وشطب قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
المظاهرات في المُحرَّر، الغاضبة على سياسة تركيا، مُحقَّة بالكامل، إذ سيقع الضرّر على الشعب هناك بالدرجة الأولى، وطاول الغضب التنديد الكامل بالائتلاف ومؤسّسات المُعارضة وأغلبية الفصائل، وهناك رفض واسع منذ أربعة أشهر لهيئة تحرير الشام، والمظاهرات لم تتوقّف. بالتالي، هناك رغبة شعبية كاملة في تغيير المُعارَضة السياسية والعسكرية، وهيئة تحرير الشام. والأوضاع في السويداء انتفاضة مفتوحة، ولم يستطع النظام إخضاع درعا بعد.
حاولت المُعارَضات السورية استغلال التقارب التركي، لكنّها لم تصل إلى إدانته، ورَفضت التهجّم على رموز الدولة التركية من المتظاهرين (تحطيم سيّارات وتمزيق أعلام، وقتل جنود في ردَّة فعلٍ على قتل جنود أتراك تسعة متظاهرين سوريين). دفع وضوح التقارب مع النظام، وسياسة التهجير المعاكسة من تركيا إلى الشمال السوري، وخضوع المعارضة السورية للمصالح التركية، الشعب في المُحرَّر إلى التظاهر، ورفض سياسة تركيا والمعارضة السورية معاً، وهذا يُؤسّس لما يشبه الطلاق البائن بينهما، وإذا انطلقنا من أنّ تركيا لن تتراجع عن سياساتها، والمُعارَضةُ لن تنقل أسلحتها من كتف تركيا إلى كتف الثورة، فإنّ هناك ضرورة لتشكيل مُعارَضة جديدة.
المظاهرات في الشمال السوري، الغاضبة على سياسة التقارب التركي مع النظام، مُحقَّة بالكامل، إذ سيقع ضرر تلك السياسة على الشعب هناك أولاً
سقوط المُعارضة ومُؤسّساتها يفرض على الشعب السوري في الشمال، وفي سورية كلّها، تشكيل معارضة جديدة، وشطب كلّ تمثيل سياسي للمعارضة الحالية، والاعتماد على الذات في مواجهة المُشكلات الواقعية، وتحديد قضيتهم وصراعاتهم مع السلطات في الشمال، وفي دمشق وإدلب والحسكة، وإقامة علاقات مع الخارج وفقاً للمصلحة الوطنية السورية. هذا الأمر سيدفع تركيا نحو سياسةٍ أكثر تشدّداً مع الثورة. فعدا عما ذُكِر، قطعت أنقرة الإنترنت منذ بداية الشهر الجاري (يوليو/ تمّوز)، وضيّقت كثيراً على العلاقات التجارية، وبدأت بملاحقة من مزّق الأعلام ومن قتلَ الجنود، ومن حطّم بعض السيارات، ولن تتوقّف عند ذلك. إنّ التقارب مع النظام يستدعي الابتعاد عن مصالح الشعب السوري، والوضع الذي عليه اللاجئون في تركيا أو أهل الشمال المُحرَّر في غاية التعقيد، فلا النظام ينوي تغيير سياساته، ولا تركيا تشترط عليه ذلك، وليس هناك ضغط أميركي أو أوروبي من أجل إيقاف المسار التركي، وقد عَطّل الرئيس الأميركي جو بايدن قانون منع التطبيع، ولن يتغيّر ذلك إذا وصل ترامب إلى الرئاسة، وهناك رغبة من أغلبية الدول العربية بالتطبيع معه.
هذا الوضع هو ما يفرض على الشعب العودة إلى الذات، وتشكيل قواه ورؤيته ومشروعه الوطني، انطلاقاً من الواقع المُعقَّد هذا. إنّ رفض التقارب لا يجب أن يصل إلى العداء مع تركيا، ولكن يجب رفض الارتهان لمصالحها في سورية. هناك ضرورة لرفض حالة التعدّد والتذرّر في القوى الفصائلية، ورفض وجود الفصائل في إدارة المدن والبلدات وتشكيل هيئة سياسية لقيادة المُحرَّر وخضوع الفصائل لها، والتحدّث والتحاور باسمه، وباسم سورية بأكملها. سيُواجَه هذا برفضٍ كبيرٍ من تركيا وروسيا وإيران، ومن الدول العربية المنفتحة على النظام، ومن الفصائل.
ينبغي التأكيد على "صناعة" معارضة جديدة، لأنّ النظام في أسوأ أحواله، وأشكال الانفتاح عليه كلّها لن تُخرجه من أزماته. وبالتالي، هناك ظروف موضوعية في المُحرَّر، وفي سورية كلّها، من أجل موجة جديدة من الثورة. هذا هو الوضع الحالي بظروفه الموضوعية والذاتية، فهل تنتقل المعارضة إلى لعب دورها التاريخي، والانتقال بسورية إلى دولة من جديد؟