هل يؤدّي انفجار لبنان إلى التقسيم؟
سُئِل رئيس المجلس النيابي، نبيه برّي، عن موعد انتخاب الرئيس، فأجاب: "حين يتفق اللبنانيون على رئيس، وأنا طرحت الحوار، وهاجموني بدل أن يفهموا أن هذا المخرج الوحيد، والبلد لا يحتمل التأخير أبدًا". أما عن خطاب التقسيم فقد قال: "كلام سمير جعجع متقدم وخطير حول هذا الموضوع، لكن لا أعتقد أن هناك جدّية في هذا الطرح، إنما في إطار المزايدة والمناكفات المسيحية – المسيحية. للأسف، لبنان صغير وهو مثل الذرة، إذا انشطر ينفجر ويُحدث دمارًا كبيرًا".
في المفهوم العلمي، الانشطار الذري هو عملية انقسام نواة ذرة ثقيلة إلى قسمين أو أكثر، ليتحوّل عنصر معين إلى عنصر آخر، وتولّد عملية الانشطار كميات ضخمة من الطاقة الحرارية والإشعاعية، وتُحدث دماراً هائلاً، فهل سينطبق المفهوم العلمي على الواقع اللبناني في حال انشطر (تقسم)؟
يدرك من يتابع التطورات التي يمرّ بها لبنان أن حالة "الاهتراء" في إداراته وصلت إلى الجسم القضائي. اذ على الرغم من تجميد عمل المحقق القاضي طارق بيطار في واقعة انفجار مرفأ بيروت منذ 13 شهرًا وسط تحدّيات قانونية، قال بشكل غير متوقع، يوم الإثنين 23 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، إنه يعتقد أنه يمكنه استئناف تحقيقاته في تفجير لقي فيه أكثر من مائتي شخص مصرعهم، عندما اشتعلت نترات الأمونيوم التي كانت مخزّنة بشكل غير آمن في أحد مستودعات المرفأ، وقد دمّر الانفجار مساحة كبيرة من العاصمة اللبنانية. وما كان من قرار البيطار الإفراج عن خمسة أشخاص أوقفوا بعد الانفجار، واستدعاء أشخاص جدد من كبار الأمنيين والقضاة، في مقدمتهم مدّعي عام التمييز غسّان عويدات، إلا أن أشعل فتيل الانقسام داخل الجسم القضائي، الأمر الذي دفع عويدات إلى الإفراج عن كل الموقوفين والادّعاء على القاضي بيطار ومنعه من السفر.
لا يلقى تغيير شكل النظام رفضًا شيعيًا فقط، إذ تقاطع رفض الثنائي مع موقف السعودية الحازم في رفض المسّ باتفاق الطائف
دخل الجسم القضائي اللبناني حالة غير مسبوقة تاريخيًا من الانهيار، تجاوزت التخبّط والفوضى والارتجالية، بعد الهرج والمرج اللذين حصلا بين المدّعي العام التمييزي والمحقق العدلي. لقد تحوّل 25 يناير/ كانون الثاني 2023 إلى محطّة في سلسلة تواريخ سوداء من التفكّك والتفتّت والانهيارات التي شهدها لبنان.
يعيش الشارع اللبناني، في ظل المشهدية الفوضوية، انقساماتٍ حول كيفية إدارة الأزمة، وحول شكل الرئيس الذي يجب انتخابه. وما حصل أمام العدلية من تضاربٍ واقتحام مجموعة من النواب مكتب وزير العدل دليلٌ على أن اللاتوافق بين المكونات اللبنانية دفع بعضهم (تحديدًا في الشارع المسيحي) إلى المطالبة بالتقسيم واعتماد النظام الفيدرالي.
ليس عبثيًا تشبيه الرئيس برّي التقسيم في لبنان بـ"انشطار الذرّة"، لأنّه يعتبر أن المطالبة بالتقسيم لا تؤدّي إلا إلى حرب أهلية جديدة، فالثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) يعتبران أن النظام القائم اليوم هو لمصلحة الشيعية السياسية، بعدما كان اتفاق الطائف قد فرض السنّية السياسية، في حين كانت المارونية السياسية متحكّمة بالنظام منذ تأسيس لبنان عام 1943، حيث كانت لرئيس الجمهورية الصلاحيات الكبرى.
دخل الجسم القضائي اللبناني حالة غير مسبوقة تاريخيًا من الانهيار
لا يلقى تغيير شكل النظام رفضًا شيعيًا فقط، إذ تقاطع رفض الثنائي مع موقف السعودية الحازم في رفض المسّ باتفاق الطائف. وقد جاءت تغريدة سفير المملكة في لبنان وليد البخاري، على حسابه على "تويتر"، لتقطع الشك باليقين، حيث غرّد أن "المسّ باتفاق الطائف يعني الانتحار وتحوّل لبنان إلى أطراف متقاتلة". لهذا، أصرّ البخاري على عقد المؤتمر الوطني في الذكرى الـ33 لإبرام اتفاق الطائف، في قصر الأونيسكو، في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، للتأكيد على موقف بلاده من رفض تغيير شكل النظام.
تعد التعددية الطائفية سمة رئيسية من سمات المجتمع اللبناني، وعنصرًا رئيسيًا في نظامه السياسي الذي يتطلب توزيع المناصب والمراكز في الدولة على الطوائف الدينية المختلفة، حتى باتت علاقة الفرد بالدولة تتحدّد من خلال انتمائه الطائفي، لا من خلال انتمائه الوطني الذي يذوب أمام حالة نفسية شعر من خلالها "اللبناني" بأنه من طائفته قبل أن يكون لبنانيًا.
هذه التعدّدية الطائفية سببها التداخل المسيحي - المسلم داخل النسيج اللبناني، على طول مساحة هذا الوطن، فمن شرقه إلى غربه، تجد مناطق تشكّل لوحة فسيفساء ممتزجة في داخل المكونات اللبنانية، إلى درجة أنه يصعب التقسيم بينها على أساس المناطق، فهذه التعدّدية ونموذج العيش المشترك دفعت البابا الراحل جان بول الثاني إلى إطلاق عبارته خلال زيارته هذا البلد "إن لبنان أكثر من بلد هو رسالة".
كما فشل حزب الله، رغم فائض قوته، في تطبيق "ولاية الفقيه" في لبنان، كذلك الأمر لن يستطيع المكوّن المسيحي، مهما طالب بالتقسيم، الوصول إلى مبتغاه
لذا، في ضوء أفق الفيدرالية المسدود، من الأجدى أن نبني دولةً مدنيةً تعمل على إزالة الخلافات أو التناقضات التي سبّبت آلامًا للبنانيين، يشعر كل فرد من خلالها أنه متساوٍ مع "الآخر"، ويتمتع بالحقوق والواجبات نفسها، وفق منطوق الدستور، ولا يشكّل الواحد تهديدًا للآخر، بهدف إشاعة الوحدة الوطنية، على خلاف مشاريع "التقسيم" الهادفة إلى تعطيل أي أمل يتجاوز فكرة "العداء للقانون والإصلاح" في دولة تعتبر نفسها منهجًا طائفيًا لا يجوز الاقتراب منه.
يعود الحديث عن الفيدرالية أو التقسيم في لبنان إلى مرحلة الحرب الأهلية، حيث كانت الانقسامات في البداية بين المنظمات الفلسطينية المدعومة بقوى حزبية يسارية وإسلامية لبنانية، وأحزاب مسيحية كانت ترفض ما كانت تعتبرها "هيمنة الفلسطينيين على لبنان". وبعدها ظلّت هذه الفكرة تتنامى مع فشل اتفاق الطائف في بناء دولة حقيقية.
لهذا، كما فشل حزب الله، رغم فائض قوته، في تطبيق "ولاية الفقيه" في لبنان، كذلك الأمر لن يستطيع المكوّن المسيحي، مهما طالب بالتقسيم، الوصول إلى مبتغاه، فالتوزيع المناطقي لا يسمح بفرض التقسيم على شاكلة قبرص اليونانية والتركية، ولن ينجح نموذج الكوريتين، فالنظام في لبنان لا يقوم إلا على تسوياتٍ، حيث تكون للطائفة الأقوى الهيمنة والقرار، وإلا سيعيش حربًا أهلية تتجدّد عند كل مفترق يسعى فيه بعضهم إلى طرح التغيير.