هل من حلمٍ لي؟
منذ فترة وأنا لا أحلم. أستفيق بنيّة البحث عن حلم الليل الفائت، فلا أجد منه شيئاً، لا صور مرتبكة، ولا شعور غامض، أو أثر يُشير إلى أين حملتني أحلامي في الظلام. هل يُعقل أني توقّفت عن الحلم لكي أحتمي من كمّ الخراب الذي أسمع عنه وأراه خلال النهار؟ حتى في أسوأ الأوقات، كنت أحلم. أتعاطى مع أحلامي بشكل بدائي، فطريّ، إذ أبقى في مزاج الحلم الفائت حتى قدوم الذي يليه، لا تهمّني كلّ التفسيرات العلميّة، إذ يتسرّب حلمي إلى يومي كما لو كان ماءً، دخاناً، رائحة تبقيني في أجوائه طوال النهار.
لو قارعني أحدٌ في تفسير الأحلام علمياً، وشرح ارتباطها باللاوعي ورسائل الجسد وعلم النفس، لسبقتُه إلى تلاوة أنواع الشروح والتفاسير كافة، ترفدها أسماءُ المراجع والكتب على أنواعها. ومع هذا، ثمة ما يدفعني، داخلياً، إلى الإبقاء على سحر الأحلام وحفظ ديكوراتها وأصواتها وروائحها على حالها، طازجة، نقيّة، لا يمسسها الوعيُ أو يشوّش صفاءها، فتلك التداعيات التي لا تدوم سوى ثوانٍ أو دقائق، ولا نذكر منها إلا الأخيرة التي تسبق الاستيقاظ، قد تصنع أيامنا وتلوّنها بألوانها، بل إنها حتى قد تُملي على بعض الأشخاص سلوكاً معيناً أو قراءة ما للأحداث. وعلى الرغم من كل ما قيل ضدّها، تبقى الأحلام تؤثّر فينا لأنها تمتلك، في نظرنا، شيئاً من سحرية العلاقة بالعالم غير المنظور، بالـ ما وراء، بذاك العالم الممتنع الآخر الذي لا يلجه إلا الراؤون والنورانيون والأنبياء. أجل، ما زال ارتباطنا بالأحلام وثيقاً، وإن كنّا لا نتعاطى معها كلها سواسية، فمنها العابر ومنها المقيم، ومنها المفرح ومنها المخيف، ومنها تلك الأحلام - المفاتيح التي تتكرّر في بعض مراحل حياتنا، بحيث يصبح لكلّ مرحلة حلمها الخاص.
كان حظي منها حلمين أو ثلاثة. في مرحلة الطفولة، كان على شكل باص رمادي نوافذه عمياء، يدخل الزاروب حيث ألعب، عند هبوط المساء، ثم يميل كي يحملني على ظهره قبل أن يبلغ طريقاً عاماً، وحفرة جانبية يرميني فيها حيث أسمع عواء كلابٍ تسعى ورائي، فيما أسعى أنا إلى تسلقها من دون نجاح. بعد هجرتي، كان الحلم الذي يعودني سنوات: أنا أريد أن أغادر منزلا أسكنه، وكلما حاولت الخروج، أنتبه إلى أشياء لم أتممها قبل الخروج، كإغلاق النافذة، أو إطفاء الضوء، إلخ. وبعد التأكد من كل الأمور، أخرج إلى الفناء الذي يفضي إلى الشارع. وهناك، ألتفتُ مرة أخيرة لأجدني أمام النافذة أنظر إلى نفسي مغادرةً. كنت أستفيق مذعورة من هذا الحلم، وما زلت، حين أخبر عنه، أشعر برعشةٍ في قلبي، وبشيء من الرهبة. إذ كيف لي أن أوجد في مكانين في الآن نفسه؟
الأحلام نوافذ إلى أرواحنا، إلى ما يكمن فيها طويلاً، خفياً، غير مرئي، في القاع. إنها لغتنا الأولى، كتابُنا الذي لا يجيد أحدٌ سوانا فك شيفرته. في التوراة، تبوأت الأحلامُ مرتبةً مهمّةً، لأنها وسيلة التواصل بين الخالق والمخلوق، ولأنها تُنبئ بالمستقبل والآتي. في الحضارات القديمة والطبّ القديم، لدى الإغريق والفراعنة والرومان، أقيمت معابد خاصة يؤمّها الناسُ للنوم وتفسير أحلامهم، وقد كان تفسير الأحلام يدير جزءاً من حياة المدينة، كما في حلمي رمسيس الثاني وتفسير يوسف له، أو حلم نبوخذ نصّر السرّي ورؤيا النبي دانيال التي مكّنته من اكتشاف تفاصيل الحلم وتفسيره، منقذاً بذلك حكماء بابل من القتل. وحدها الحضارة الغربية قاطعت عالمَ الأحلام بعد اعتناق روما الدين المسيحيّ في القرن الرابع الميلاديّ، وقد اعتبرتها الكنيسة صنواً للوثنية والشعوذة، وحذّرت من تأثيراتها السيّئة لقدرتها "على إضاعة البشر ومنح الأغبياء أجنحة ومعاقبة الأشرار". القطيعة الحادّة هذه، بين وعي العالم الغربيّ ولا وعيه، استمرّت نحو 1500 عام، حتى اكتشاف "النوم المتناقض" عام 1959، واعتباره والحلم، وظيفةً فيزيولوجيّة حيويّة.
هل من يأتيني بحلم؟