هل مالي نهاية النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟
تاريخياً، ظلّ الحضور الفرنسي قوياً ومهيمناً على دول القارة الأفريقية، إذ كان القرار السياسي لهذه الدول مرتهناً بخيارات المركز في باريس، وهناك كانت تشكَّل حكومات المنطقة وتُسقط. وعقوداً طويلة ظلت فرنسا المتحكّم الفعلي في غالبية الدول الأفريقية التي كانت جزءاً من مستعمراتها، واستندت في إدارة سياساتها إلى جانبين: نشر الثقافة الفرانكفونية، إذ تعتمد 27 دولة أفريقية رسمياً اللغة الفرنسية أداة للإدارة والتعليم، وهو ما يجعل منها أكبر فضاء للغة الفرنسية خارج فرنسا. والتبعية الاقتصادية، فعملة "الفرنك الأفريقي" ما زالت معتمدة في 14 دولة أفريقية، بما يجعلها مرتبطة عضوياً بالاقتصاد الفرنسي، وما يترتب عنه من تقرير السياسات والتحالفات، بل وإطاحة الحكومات وتدبير الانقلابات.
غير أنّ سنوات حكم الرئيس إيمانويل ماكرون شهدت ما يمكن اعتبارها بداية الانهيار الفعلي لنفوذ الدولة الاستعمارية السابقة. ويمكن القول إنّ ما جرى في مالي من تحولات متسارعة هو النموذج الأكثر وضوحاً لهذا التراجع الفرنسي. من الناحية التاريخية، كانت مالي من المستعمرات الفرنسية، والتي تشكلت جغرافياً في ظلّ الاحتلال بداية من سنة 1904 واستمر النفوذ الفرنسي حتى بعد استقلال مالي سنة 1960 بأشكاله السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية عقوداً متتالية. وإلى حدود سنة 2013 تدخلت فرنسا عسكرياً من خلال عملية "سرفال" للقضاء على الجماعات المحسوبة على القاعدة والقوى المتحالفة معها في الشمال المالي، وإنقاذ الحكومة المالية الموالية لها، ومنحها نصراً عسكرياً ودعماً اقتصادياً لمزيد من تثبيت أقدامها في السلطة. وبعدما تباهت بما اعتبرتها إعادة الديمقراطية البرلمانية إلى البلاد، غير أنها لم تنجح في منع المحاولات الانقلابية المتكرّرة، والتي بلغت ذروتها مع الانقلاب العسكري في 18 أغسطس/ آب 2020، حين اعتقل الجيش رئيس الدولة إبراهيم أبو بكر كيتا ورئيس وزرائها، إثر اضطرابات شعبية عمّت البلاد نتيجة استمرار تدهور الحالة الاقتصادية والأمنية.
منذ تولي الحكومة العسكرية الحكم في مالي، طالبت بمراجعة الاتفاقية الدفاعية التي كانت تربط البلاد بفرنسا واعتبرتها مدخلا إلى انتهاك السيادة الوطنية، وبدأت بعدها سلسلة إجراءات لفك الارتباط مع فرنسا، وتقليص نفوذها العسكري بوجه خاص. وهكذا توالت خطوات المجلس العسكري بداية من إعلان انسحابها من كلّ أجهزة مجموعة دول الساحل الخمس وهيئاتها، بما فيها القوة المشتركة المعنية بمحاربة المجموعات المتمرّدة، وانتهاء باستعانتها الواضحة بالجانب الروسي، واستجلاب مرتزقة فاغنر قوة رديفة لمحاربة المجموعات المتمرّدة الناشطة في مناطق مختلفة من البلاد.
ما يجري في مالي سيلفت نظر أنظمة حكم في دول أفريقية عديدة إلى أن إمكانية بناء علاقات استراتيجية مع قوى دولية أخرى غير فرنسا أمر ممكن
فعلياً، بدأت فرنسا انسحابها العسكري من مالي، وسيكتمل مع نهاية هذا الصيف. ولتفقد نفوذها الذي استمر هناك عقوداً. ولتتلقى ضربة قوية، ما يترك المجال واسعاً لتدخل قوى دولية أخرى؛ بينها روسيا والصين وتركيا، في القارّة السمراء، حيث تنهار تدريجاً التوازنات القائمة في العقود الماضية. والحقيقة أنّ خسارة فرنسا لا تعود فحسب إلى مواقف الحكومة العسكرية، بقدر خسارتها الرأي العام في مالي، بل وفي الدول الأفريقية عموماً، فقد أصبحت الهوة عميقةً بين الأفارقة والسياسات الرسمية الفرنسية التي خبروها عقودا طويلة، حيث تجاهلت فرنسا الرسمية توجهات الرأي العام والتقارب مع الشعوب، وركّزت على توطيد حكم أنظمة دكتاتورية موالية لها. لقد فشلت فرنسا خصوصاً في حربها الدعائية في مالي. وفي المقابل، ظهرت قوى أخرى استثمرت في كراهية الأفارقة الغرب، وفي الوقت نفسه، قدّمت نموذجاً يتفادى التدخل في سلوك الأنظمة الأفريقية، ويكتفي بالتعاون معها من أجل مصالح متبادلة. وفي مدة وجيزة، استطاعت روسيا نشر مرتزقتها في نحو 20 بلداً، واتجهت الصين إلى الاستثمار في البنى التحتية واللوجستية، فيما طوّرت تركيا روابطها الثقافية في المنطقة، باعتبارها مدخلاً إلى علاقات وثيقة في المجال الاقتصادي. ومن الأكيد أنّ تنامي نفوذ هذه الأنظمة السلطوية الثلاثة سيكون على حساب فرنسا، ومن ورائها الاتحاد الأوروبي برمّته، وهو ما يطرح مشكلات عديدة في طبيعة العلاقات المستقبلية بين الدول الأفريقية والفضاء الأوروبي الذي استمرّت العلاقات معه بصيغ تقليدية لم يقع تطويرها أو إعادة مراجعتها على الأقل.
قد يكون من المبكر التأكيد على نهاية النفوذ الفرنسي في قارّة أفريقيا، غير أن من الأكيد أن ما يجري في مالي سيلفت نظر أنظمة حكم في دول أفريقية عديدة إلى أن إمكانية بناء علاقات استراتيجية مع قوى دولية أخرى غير فرنسا أمر ممكن. وهذا ما يفسّر الحرص الفرنسي على إفشال نظام الحكم العسكري في مالي، بل والتخلص منه. ولهذا لم يكن غريباً أن تتهم السلطات المالية فرنسا بوقوفها خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة التي حصلت أخيراً، وهو ما يعني أنّنا أمام صراع مفتوح لم تُحسم نهايته بعد.