هل عادت "القاهرة 30" يا عم نجيب؟

17 ديسمبر 2020
+ الخط -

نشرت رواية "القاهرة الجديدة"، أول مرة سنة 1945، وهي تعكس أجواء القاهرة بامتياز خلال أزمة ما بعد الحربين العالميتين اقتصادياً، واجتماعياً، وأخلاقيا، وتجلياتها في عاصمة حضارية تورّطت في الحرب مشاركة للمحتل "كحليف". وكان فيلم "القاهرة 30"، مقتبسا من أجواء الرواية بإخراج صلاح أبو سيف، أستاذ الواقعية في السينما المصرية. وخرج عبد العزيز مكيوي في أول تجربة له نجما. أما صاحب كلمة "طظ" الشهيرة، حمدي أحمد، الموظف الفقير القادم من الصعيد، كي ينال وظيفة بأي شكل، فقد صار أيقونة بكل عيوبها. وتتناسل الأيقونات في القاهرة في معملها الكيميائي الصاخب خلال ما يوازي 75 سنة من كتابة النص الروائي. وأيضا تتناسل شخصيات الفيلم خلال ما يوازي 55 سنة من إنتاجه في 1966. 

مرّت 75 سنة، يا عم نجيب، على "قاهرتك الجديدة" التي صارت كل بلداتنا، حتى الصغير منها، خارجة من الحرب وداخلة فيها، عبارة عن "قاهرة جديدة"، قاهرة غير عامرة بالطرابيش كما كانت "قاهرتك"، إنما عامرة "بالتكاتك"، وأي مقهى في بلدة من بلداتنا نرى شحاذين يمثلون على الناس بعاهاتٍ بعضها حقيقي، وبعضها جيد التمثيل والحركة والأسى، ولو عاش صلاح أبو سيف إلى الآن لاستفاد منه استفادة باهرة.

لم تعد هناك فواصل حادّة ما بين "قاهرتك" الفنية والثرية وبلداتنا التي صارت أيضا فنيةً وثريةً بعاهاتها، واحتياجاتها، وحيلها، وأساها، وصبرها، فقط في مشهدٍ واحدٍ أمام مكاتب بريد الصعيد وقرى الدلتا تأمل جموع الواقفين ككتل اللحم من أجل "500 جنيه"، ثمن ربع جدي صغير. يجعلني ذلك أتأمل فلاح القرى، بعدما كسره العسكر، وقد كان الفقير منهم يمشي متباهياً إلى حقله "بقطفة غنم".

ولم تعد سعاد حسني وحدها البنت الفقيرة التي تبحث لأسرتها عن فرصةٍ كي تعيل أخواتها وإخوتها، بل أصبحت، "مديرة المدرسة" تبيع الملابس أيضا للموظفات، والموجه في التربية والتعليم يبيع "الفول المدمس"، على موتوسيكل، من دون الشعور بأية إهانة ما، وسكرتيرة المدرسة تتاجر في البخور والملابس الداخلية، والطبيب المعروف يقف بأولاده على أعتاب السفارات كي يبحث له ولأسرته عن هجرة، ويغلق العيادة، أو يحوّلها أصغر أولاده إلى بوتيك، أو إلى مركز لصيانة الموبايلات، أو إلى كوافير لابنته، وينتظر هو الآخر دوره في الهجرة، بعدما تعب مع الناس التي "تنطح كالبقر"، كما يقولها عم نجيب في "قاهرة غريبة"، لا يقول فيها حمدي أحمد "طظ"، فهذه الكلمة صارت مؤدّبة جداً بالمقارنة بما يقال.

أما أحمد طه، فقد اندثر تماما، يا عم نجيب، ولم يعد له أي وجود، بعدما حوّل اليسار حزبه إلى بوتيك تابع للقوات المسلحة، وهاجر شبابه بحثا عن فرصةٍ أفضل، وأغلب الإخوان "الأعداء جدا"، في السجون، بعدما زاد عددها خلال ست سنوات إلى 24 سجناً، على أحدث ما وصلت إليه السجون من تحصين وتقنية، يا عم نجيب.

لن أقول لك سرا، فأنت شاهدت ذلك في حياتك، فقد صار صاحب مقولة "طظ" عضوا في البرلمان المصري، لأنه استشفّ رائحة الأيام المقبلة، وكنت أراه في جامع الأزهر ببدلته وكرافتته بعد صلاة الجمعة من أكثر من ثلاثين سنة، والجماهير تقترب منه في إجلال، بحثا عن وظيفة أو مساعدة. أما الرجل الرمانسي جدا، عبد العزيز مكيوي، فظل مكسورا ومرميا في الشارع أكثر من سنتين، وتحته "الكرتون وألواح الخشب"، فهل كانت الأقدار تؤدّبه لأنه أفرط في المثالية والرومانسية والحب، ولم يستطع أن يستشفّ وساخة الآتي، كما فعل صاحب مقولة "طظ" الذي صار برلمانيا؟

أما لؤلؤة الرومانسية والدلع والصفاء، وهي سعاد حسني، فقد ألقي بها فجرا من بلكونة في لندن، وأنت أعلم منا بهذه الأمور التي تتم في الخفاء، فقد توقفت عن الكتابة خمس سنوات بعد الثورة في أدب وحذر شديدين.

أما مصطفي بكري، فلن أكلمك عنه، لأنك وكأنك كنت تراه قبل أن يصير جنينا، بـ15 سنة، أي قبل أن تراه في الحياة مشخّصا، وقبل حتى أن يأتي من الصعيد، وقبل أن يصير برلمانيا، هو الآخر تاركا مجلس الشيوخ لأخيه، وهذه هي نبوءة الأدب.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري