ذلك النور الكريم
المشي في الأسواق بعد انبثاق أوّل النور متعةٌ غامرةٌ هي الشعور ببركة النعمة في حالات اختلاطها بالكون، حينما يبدأ مُجلّلاً بأوّل النور وانتظار الناس أوّل أرزاقها. النور بداية لحركة الكون، ومتعة حركة الأشياء، والسعي وراء أوّل شفرات الرزق، مع ظهور أوائل الطير في الغبشة، وإشارات النور من القطارات الآتية من وراء المزلقانات، أو قطرات مطر، أو ضحكة مجلجلة في وسط غبشة السوق، أو مشاكسة معتادة مكان ركن الخضار أو الفاكهة.
أولى خطوات الرزق، حينما يتضح للعبد من هواء الله المخلوق له توّاً بداية الخيط الأبيض من الأسود، متعة ظهور بدايات الورد على استحياء من خلال أكمامه، متعة نزول الندى إلى مناقير صغار اليمام حينما تهلّل الأمهات بأوائل بركات أوّل النهار مع أوّل الدفء، ذلك النور الكريم الآتي لخلق الله بعد النوم في الكوابيس أو الأحلام التي لا تُطاوَل، أو شؤون الدنيا المتناقضة ودروبها الملتوية، كقول بعض الحقّ أو ربعه أو ثمنه، أو كتمانه أو خنقه في الحلق أو في القلب خشيةً، رغم أنه يُنطَق في العينين بلا مواربة.
متعة أن تنادي في أوّل النور على "عربجي" نحيل كان صديقاً لك في المدرسة من أكثر من نصف قرن، وتركَ المدرسةَ في بواكيرها، ومشى وراء عربة كارو وجحش في أسواق الخضار من دون أن يفارقها إلّا لماماً، لحمل الدبش ومخلّفات البناء، وقد صار أكثر نحولاً من الماضي، ومع نور الله الكريم استطعتَ أن تتعّرف إليه رغم النظّارة الفقيرة الشاحبة على عينيه، والغريب أنه نطق بحروف اسمك بحلاوة، وكأنّكَ تسمع اسمكَ للمرّة الأولى، فور سماعه أولى كلماتكَ عن ذلك المرح الذي كان لكما في "اللطعة"، وذكّرته بكلمة "الهبّوش"، فمات من الضحك.
أول النور هو بركة للعبد، بركة أنه ما زال يعيش ويمرح ويعرفه أصحابه في غبشة السوق، حتى بعد أكثر من نصف قرن. جميل ذلك الإنسان بالمعرفة وبالذكرى وبالنور وبلقاء الأحبّة. أول النور، هو بركة للعبد الحي الذي يكافح فيها صامداً وراء أرزاقه البسيطة وبقايا أمله فيها، وبركة للميّت الذي فارقها وما زالت تلهج به الألسنة للطف معشره وذكراه، وخاصّة حينما تتذكّر مع صديقكَ في الغبشة بقيّة الأصحاب الذين رحلوا، مثل رجب أبو باجور، أو محروس أبو يونس، تاجر القرب القديمة في صباه على الدرّاجة القديمة في القرى البعيدة، الذي تزوّج صغيراً وصار له الشال والجلباب الصعيدي، الذي مات من سنوات في وِرش الرخام تحت "الونش".
يظلّ نور الله هناك يعمّر السوق، وتترك صاحبك على أمل أن تقابله بعد المغارب في مقهى أمّ كلثوم، إنْ استطاع أن يأتي. تمشي في السوق على أمل النسيان، فتتلاقى بالذكرى، الذكرى كتاب آخر يمشي خلف ظهركَ من سنوات، وتزاحم حتى كتبكَ، ولا تترككَ حتى في غبشة السوق.
النور هناك أصبحت له تلك الألوان البهيّة فوق خضار الزرع، والنيل غافٍ هناك تحت برودة الجو، وبعض مراكب تعبر محمّلة بالأحجار أو الأكياس، وهامات النخيل هناك، بعضها قد انحنى، مع تناسق أشجار الموز وقدوم الحافلات الصغيرة بالنسوة الفقيرات من العِزَب إلى مداخل السوق، إنه النور يبدأ في التغلّب على أواخر غبشة الليل، إنه العمار والأرزاق وأوّل الصخب والكلام، والمفاصلة ما بين البشر، كما هو من آلاف السنين. كذلك اليمام الذي يحطّ على أول النهار وينظر في حيرة وتوجس، مرّة يقترب من بعض أرزاقه، ومرّة يبتعد ويخاف من ذلك الإنسان، ولا يحب السكينة داخل الأقفاص كالحمام. وحدها أفراخ الحمام في السوق، وبالكاد كساها الريش، تتأمّل مصيرها ما بين البيّاعين والمشترين، وتستوحش وضعها خلف الجريد؛ يظلّ السوق على صخبه، ويظلّ توجّس الحمام في القفص، والأرزاق تنطّ هنا وهناك، وتبدأ الشمس في فرش خيوطها فوق الخضار والعنب مع انطلاق النداءات من الحناجر.
كلّ يوم، يعبّ المرء من الذكرى ويرمي منها في البحر، كي ينساها، أو على أمل أن ينساها. كلّ يوم يرمي منها في البحر، والبحر ليس بملآن.