هل تونس مشرفةٌ على تغيير ما؟
تمرّ المجتمعات في تاريخها بمحطات مفصلية، تكون أحيانا عاصفة ومخيفة، تغيب فيها معالم الطريق، ويفتقد فيها الناس معالم الطريق، ويهيمن القلق والشك والحيرة. يمكن القول إن تونس تمرّ حاليا بمثل هذا المنعطف. لا شيء يوحي بالاطمئنان. كل النوافذ مفتوحة على المجهول، وكل الأبواب تكاد تكون موصدةً أمام مختلف الشرائح الاجتماعية، وفي مقدمتها الشباب.
خلال هذه الأيام والأسابيع الأخيرة، بدأت تهبّ على البلاد أجواء ساخنة تنبئ باحتمال هبوب عاصفة اجتماعية قوية. شهدت مدن عديدة تحرّكات احتجاجية مختلفة، في ظاهرة ليست جديدة، إذ غالبا ما تتعدّد هذه المظاهر مع نهاية كل عام، لكن المثير، هذه المرّة، يكمن في أن الأحياء الصعبة، المعروفة بفقرها، بدأت تتحرّك من جديد، حيث أخذ شبابها في التجمع والاحتجاج ليلا من خلال إشعال العجلات المطّاطية ورشق عناصر الشرطة بالحجارة والزجاجات الحارقة. وصاحب ذلك أحيانا خلع محلات تجارية وسرقتها، لكن ذلك استثناء وليس القاعدة. وهي ظاهرةٌ كانت تتكرّر في مناسبات سابقة عديدة، عندما تعجز السلطة عن توفير حلول سريعة لأوضاع معقدة. ويكون ذلك مؤشّرا على دخول البلاد في أزمةٍ هيكليةٍ سياسية واقتصادية، قد تمثل مقدّمة لتغيير ما في الأفق.
تقترب الحالة التونسية الراهنة من هذه المحطّة، محطة التغيير الإجباري. لا يتجلّى ذلك فقط في هذه المظاهر الاحتجاجية التي قد تتحوّل إلى اشتباكات عنيفة، ولكن ذلك يظهر أيضا في إصرار السلطة على تصلبها السياسي، ورفضها المطلق التراجع أو تعديل الخطاب الذي يتسم بالغموض والاجترار والتبسيط والتهديد، وعدم القبول بقدر، ولو بسيطا، من الانفتاح وقبول الوساطات. وهو أسلوبٌ يجعل مؤسّسات الدولة تبدو وكأنها لا تستمع لمطالب المواطنين، رغم أن الخطاب السياسي لرئيس الدولة يستمد شرعيته الأيديولوجية من شعار "الشعب يريد".
يعتقد المعارضون لقيس سعيّد أن مغادرته السلطة أصبحت وشيكة، ويزعم هؤلاء أنه لن يستمر في الحكم أكثر من بضعة أشهر. ويستندون في ذلك إلى الحالة الاقتصادية السيئة، التي أفقدته كثيرا من الزخم الشعبي الذي تمتع به سابقا. لكن هؤلاء المعارضين يختلفون فيما بينهم بشأن تحديد الطريقة التي ستكون الأقرب لإنهاء الحقبة الرئاسية الحالية.
يفترض أغلبهم حصول هبة شعبية واسعة تضع سعيّد في عزلة تامة، وتفرض عليه التنحّي عن الحكم. وقد لا تكون هذه الهبّة مخطّطا لها من جهة سياسية واحدة ومنسجمة، نظرا إلى حالة الانقسام التي عليها المعارضة، وإنما يتوقع أصحاب هذه الفرضية أن تتحرّك جهاتٌ وأطرافٌ من دون تنسيق فيما بينها للتعبير عن غضبها ورفضها الأوضاع الراهنة. وأن تتخذ هذه التحرّكات شكل عصيان مدني واسع النطاق، ما يعطّل السير الطبيعي للدولة والمؤسسات. لكن ما يغفل عنه هؤلاء أنه، في حال حصول ذلك، ونظرا إلى غياب قيادة موحدة، وعدم تبلور بديل جاهز، فإن المتوقع من مثل هذا الحراك العشوائي ومتعدّد الأشكال والمطالب أن تسقط البلاد في حالةٍ أشبه ما تكون بالفوضى العارمة. وهو ما يجعل لهذا التمرّد غير المنظم عواقب وخيمة على الدولة والسلم الأهلي.
لا يقلّ السيناريو الثاني خطورة، وإنْ كانت خسائره المتوقعة (إن حصل) أقل بكثير. يراهن بعضهم على الجيش، الذي قد يتحرّك في لحظة ما، ويبادر بتجميع بعض الأطراف المدنية، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، ويقنعها بخطورة الأوضاع، مستبعدا في هذا المسعى الإسلاميين بمختلف مكوناتهم وكذلك القوميين. وبناء عليه، يوضَع رئيس الجمهورية أمام خيار وحيد هو التنحّي، والانتقال إلى مرحلة بديلة. لكن هذا الاحتمال قد يشرع للحكم العسكري المباشر في تونس.
ليست العبرة بمدى صحة هذا السيناريو أو ذاك، وإنما الأهمية في أن تونس أصابها وهن شديد، ولم تعد قادرة على مواصلة الدوران في هذه الحلقة المفرغة. لهذا تشعر النخب بالخطورة، ويسيطر الإحساس بالضياع على المواطنين. عندها يندفع الخيال السياسي في كل اتجاه، إلى أن تدقّ ساعة التغيير. عندها "لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، ولا غالب لأمره".