عندما يدفع الفلسطينيون ضريبة المحرقة؟
عندما شرعت إسرائيل في الهجوم على غزّة للانتقام من عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وقصفت عدّة مناطق في القطاع، توجّه صحافي بسؤال إلى مجموعة أطفال لمعرفة ردود فعلهم. قال أحدهم، بكل ثقة ووعي: "نحن أبناء غزة ممنوع عليهم أن يكبروا". بهذه الكلمات البسيطة، لخّص هذا اليافع أزمة الأجيال المتلاحقة في فلسطين، وكشف حجم الحقد الذي يحمله الإسرائيليون ضد الأطفال وأمهاتهم. فالحرب المستمرّة منذ سنة وشهرين ليست ضد ثوّار يحملون السلاح ويدافعون عن وطنهم وعرضهم، وإنما هي حربٌ بالأساس ضد الأطفال والنساء، اللاتي يلدن والمسؤولات عن تربيتهم وشحنهم ضد المستعمر الغريب.
كيف يمكن تعليل كل هذا الحقد الذي تجلى في أبشع صوره منذ اندلاع الحرب؟ هل يستحقّ الفلسطينيون كل هذا التنكيل والقتل الأعمى؟ ما هي الجرائم التي ارتكبوها في حقّ اليهود حتى يحاطوا بكل هذا الجحيم؟. ... قال الحاخام البارز في أوساط الصهيونية الدينية دوف لينور: "لن نغفر للعرب ما فعله بنا الألمان"، ونعت العرب بأنهم أحقر الأمم إلى جانب السود. ويعلم جيداً هذا العنصري أن العرب لم يكونوا شركاء في المحرقة التي قتلت معظم أفراد عائلته خلال الحكم النازي، بل هم الذين حموا اليهود من تصفيات عرقية فظيعة في دولٍ عديدة، مثل تونس والمغرب والعراق وسورية. وهم الذين سبق لهم أن مكّنوا اليهود باعتبارهم أقلية من تبوؤ مناصب عليا في الأندلس، وفي غيرها من حقب تاريخية، فما هو الرابط، إذن، بين الحقد النازي الذي فجره أدولف هتلر ضد اليهود والعرب باعتبارهم أمة احتضنتهم ومكّنتهم من المشاركة والاندماج.
ما يجري في غزّة هو فقدان المعنى بامتياز. حالة من الهستيريا التي تجاوزت حدود العقل والقانون، وامتدّت عبر الزمن في انفلاتٍ غير مسبوق، وهو ما أدّى بعديد من الجنود الإسرائيليين إلى الانتحار، أو الاعتراف بأنهم تورّطوا في جريمة كبرى. من ذلك اعتراف الجندي آرييل شورتز، في مقال في موقع "والا"، بأنه لم ينخرط في الجيش الإسرائيلي لتنفيذ خطة التجويع في شمال غزّة، قبل أن يضيف: "في وسط الحرب، من الصعب تكوين رأي وإيجاد لحظة للتفكير بوضوح. لكن عندما فتحت الهاتف في الأيام القليلة الماضية شعرتُ بألم في معدتي واختناق في حلقي.. شعور بأن شيئاً سيئاً للغاية يحدُث بعيداً عن قلوبنا وعقولنا جميعاً"، وأقرّ بأن الحملة التي تشنها الحكومة الإسرائيلية بحجّة إسقاط حكم حركة حماس في الشمال ليست في الحقيقة سوى "ذرّ للرماد في عيوننا جميعاً"، فالهدف الاستراتيجي من هذا الدمار الممنهج تحويل غزّة إلى أرض محروقة غير قابلة للحياة.
في خط مواز، الغرب مستمرٌّ في تنفيذ سياساته المريبة. يكذب عندما يصرّح قادته بأنهم عاجزون عن إيقاف حرب الإبادة، لأن عديدين منهم شركاء في دعمها، مباشرة مثل أميركا وبريطانيا، أو من خلال منع المنظمات الدولية من القيام بدورها، فمنظومة الأمم المتحدة مهدّدة بالانهيار بسبب عجزها عن اتخاذ أي قرار ملزم ضد إسرائيل، وأمينها العام لم يبق له سوى الخطابات التي لا جدوى من ورائها. كما أن المحكمة الجنائية الدولية التي تجرّأت وشرعت في محاكمة إسرائيل وجدت نفسها غير قادرة على الاستمرار في مهمّتها، بسبب الحملة المضادّة لها ولرئيسها الذي يجد نفسه ملاحقاً قضائياً في تهم باطلة حرّكتها ضده الدوائر الصهيونية، فالأقوى هو الذي يرسم السياسات الدولية، ويضبط إيقاعات تطبيق القانون وضد من يتم تنفيذه.
لنعُد إلى كتاب "هزيمة الغرب" للمؤرّخ والسوسيولوجي الفرنسي إيمانويل تود لفهم عمق الأزمة التي يواجهها الغربيون على مختلف الأصعدة. يعتقد أن ظلم الغرب الفلسطينيين وتجاهله محنتهم "لا بد من تقويمه"، وأن لا يبقى "مسانداً لجيش الاحتلال على طول الخط".