هل تداوي المصالحات العربية جراح الشعوب؟
من السهل القول إن الشرق الأوسط، وفي القلب منه منطقتنا العربية، يتّجه نحو إحلال السلام والمصالحة بين دوله، فيما يشهد العالم حالة حربٍ مدمّرة كالتي تمثلها الحرب في أوكرانيا، وتأزم مشكلة تايوان وزيادة نُذر نشوب صراع عسكري حولها، وإن شيوع ثقافة الحوار والتماس مساحاتٍ للتفاهم يمثل بارقة أمل كبيرة، بعد مضي أزيد من عقد على توتّرات عنيفة عصفت بمنطقتنا وشعوبها.
ومن الميسور استنتاج أن من شأن التقدّم نحو حالة يسودها ولو الحد الأدنى من الوئام السياسي أن يحدّ من المخاطر، ومن السباق على التسلح ومن التدخلات الخارجية، كما من شأنها أن تنعكس على أوضاع المعاناة لدى بعض الشعوب، كما هو حال شعب اليمن، بعد التفاهم السعودي الإيراني على وقف القطيعة واستئناف العلاقات بين البلدين، غير أن هذا الأمل الذي يلوح في الأفق يظلّ محفوفا بأوجه النقص، ففي حالة اليمن المنفردة ثمّة مشكلة خاصة بجنوب البلاد تنشب بين الحكومة المركزية والداعين إلى استعادة جمهورية جنوب اليمن، فضلا عن الحاجة إلى تسويةٍ متوازنةٍ في شمال اليمن تكفل عدم تغليب طرفٍ على طرفٍ مستقبلاً.
والحال أنه يصعب القول إن نهج المصالحات، في طوره الحالي، يكفي كي ينعكس إيجاباً على الشعوب، وبخاصة أن هذا النهج يتركّز بين الدول والأنظمة، ومع الأخذ في الاعتبار مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية، الواجب المراعاة، فإن تساؤلاتٍ تثور بشأن أوضاع الشعوب ومصيرها، وما تتعرّض له أوطانها من تدخّلاتٍ خارجيةٍ في شؤونها الداخلية، وهو ما يستحقّ أخذه في الاعتبار راهنا ومستقبلا. إن جانبا أساسيا ومحوريا من الخلافات العربية مع إيران نجم عن التدخلات الإيرانية في أوضاع مجتمعات ودول عربية، وهو موقفٌ لطالما شدّدت عليه الرياض وعواصم عربية أخرى، وكذلك قوى اجتماعية وسياسية عربية على مدار سنين طويلة، ناهيك عن التساؤل بشأن انعكاسات الاتفاق على أوضاع شعب إيران نفسه الذي لطالما أطلق احتجاجات واسعة على مدار عقدين، من دون أن يستجيب النظام لأدنى المطالب الشعبية العريضة.
النهج الجديد بالتقارب مع دمشق يتم حتى تاريخه بمعزلٍ عن الشعب الذي يواجه مختلف صنوف الويلات في الداخل والخارج
يصحّ ما تقدّم على خطوات التقارب مع النظام السوري، وموقع الشعب السوري من هذه السياسات الجديدة، فالنهج الجديد بالتقارب مع دمشق يتم حتى تاريخه بمعزلٍ عن الشعب الذي يواجه مختلف صنوف الويلات في الداخل والخارج، إلى درجة أن السوريين في مختلف المناطق يتعرّضون لأزمة معيشية طاحنة مع فقر مدقع يلامس حدود المجاعة ويطاول غالبية الشرائح الاجتماعية، فيما يعاني الملايين من ويلات النزوح في الداخل واللجوء في الخارج دونما أملٍ في وقف هذه المأساة المتطاولة. ويقبع عشرات الآلاف وراء القضبان، وتقفل العواصم العربية أبوابها في وجوه السوريين، فماذا يُجدي فتح السفارات وحده في وقف المعاناة العامة والشديدة، أو في الشروع بإعادة الإعمار، ما دامت أبواب الأزمة السياسية موصدة، وتتحدّى الحلول، بل إنه يتم إنكار هذه الأزمة المتشعّبة ووضع العراقيل أمام الحلول، كما هو الحال في المفاوضات العبثية الطويلة بشأن الوضع الدستوري، والتي رعتها الأمم المتحدة، ومن غير أية نتيجة تُذكر.
لا بأس في أن يتم التقارب العربي مع دمشق، على أن تؤخذ احتياجات ملايين السوريين الذين يعانون شتى أنواع الأهوال في الاعتبار، فما زال مئات منهم، وبصورة دورية، يقذفون أنفسهم مع عائلاتهم في قوارب متهالكة تمخر مياه المتوسّط بحثا عن أرض آمنة تمنحهم الحد الأدنى من أسباب العيش الكريم الآمن، وحيث سرعان ما سيصطدمون مع دولٍ تتخذ من العداء للاجئين سياسة لها. وهذا من دون التذكير بما آلت إليه أحوال آلاف العائلات من قاطني المخيمات الفلسطينية من كوارث مستمرّة في "قلب العروبة النابض". ويعرف المرء أن جانبا مهما من مباحثات المصالحة العربية يتعلق بأحوال السوريين في الداخل وفي الشتات ووجوب السير على طريق الحلول الفعلية بغير مناوراتٍ وتسويف. والمأمول والمطلوب في هذا الاتجاه أن تُؤخذ آراء ممثلي السوريين المستقلين والناقدين في الاعتبار، وإشراكهم في هذه المباحثات، من أجل الوصول إلى حلول ناجعة تنعكس إيجابا على الجميع، وبحيث يقرّر السوريون مستقبل بلادهم بغير تدخّلات أجنبية شرسة، تتقاسم السطوة والنفوذ في أنحاء البلاد.
ماذا يُجدي فتح السفارات وحده في دمشق في وقف المعاناة العامة والشديدة، أو في الشروع بإعادة الإعمار، ما دامت أبواب الأزمة السياسية موصدة؟
وينطبق ما يًقال عن مساعي المصالحة العربية مع دمشق على مساعٍ مماثلة لتركيا التي استضافت أكبر عدد من اللاجئين السوريين، من دون أن يولي النظام أهمية تُذكر لضمان عودةٍ آمنة لهم، إذ إن احتياجات هؤلاء لا بد أن تقع في صلب المباحثات بين أنقرة ودمشق، علاوة على وضع الملايين في شمال غربي سورية الذي يقع تحت النفوذ التركي، وعدم اختزال المشكلات بمشكلة الحركة الكردية المسلحة. وهذا من دون التقليل من أهمية هذه المشكلة، والحاجة إلى وضع حلولٍ سياسيةٍ لها بدل الاكتفاء بالحلول الأمنية. يقول المرء بذلك في أجواء الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية المقرّر إجراؤها بعد أربعة أسابيع، والتي تشتدّ رياح المنافسة فيها، وحيث يلعب المكوّن الكردي داخل تركيا دورا مهما في تقرير وجهة الانتخابات ونتائجها، كما تقرّ بذلك نتائج مختلف الاستطلاعات التي تجري في بلاد الأناضول، والتي تسبر آراء شتى شرائح الناخبين. وقد كان لمساعي المصالحة التركية مع دمشق انعكاسها وتأثيرها في تسريع وتيرة جهود المصالحة العربية مع دمشق، من دون أن يبدو لذلك اي انعكاس إيجابي على أوضاع ملايين السوريين، وعلى إنهاء مشكلة وجودهم بأعداد كبيرة على الأرض التركية، حيث اشتدّت مشكلتهم ومعاناتهم بعد وقوع زلازل 6 فبراير/ شباط الماضي.
الهدف مما تقدّم ذكره عبور الطريق نحو مصالحاتٍ شاملة ذات أثر على الجميع دولاً وشعوباً، مصالحات لا تتوقف عند سطح الأزمات، بل تنفذ ما أمكن ذلك إلى أعماق هذه الأزمات، وتفكيك عناصرها الداخلية والبنيوية، حتى لا تنفجر مجدّداً، وحتى لا تدفع الشعوب المغلوبة الثمن الفادح مرّتين.. مرّة لدى نشوب الأزمات، ومرّة ثانية لدى إجراء مصالحاتٍ سريعة وجزئية.