هل تتّجه مصر إلى الإصلاح السياسي؟
تضطرّ حكومة عبد الفتاح السيسي تحت إكراهات ظـروف راهنة إلى اتّخاذ مواقف سياسية داخلية متناقضة؛ ففي وقتٍ تتجه فيه السلطات إلى تحرير بعض المعتقلين وسجناء الرأي، والتمهيد للحوار الوطني، تستمر آلة القمع في اعتقال نشطاء جدد، وتوجيه ضرباتٍ أمنية وقائية ضد دعوات الاحتجاجات السلمية. ومن المرجّح أن تستمر هذه التناقضات، كونها تعبّر عن النهج السياسي الذي اتبعه النظام الحاكم لاحتواء تحدّيات سياسية واقتصادية واجتماعية تراكمت في العامين الأخيرين إلى أن تسير الأمور في أحد اتجاهين، إما أن تتمكّن السلطة الحاكمة من تجاوز هذه التحدّيات، وتعود بوجه قمعي أكثر شراسةً مما كانت عليه، أو تنجح مختلف الأطراف السياسية في اقتناص انفتاح سياسي نوعي يغيّر من طبيعة الحكم بشكل تدرّجي خلال سنوات.
كان لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائمها التي ترتكبها حكومة السيسي في بداية حكمه ظهير شعبي واسع، حتى بين قطاعات من النخبة السياسية والفكرية التي أصبحت الآن تعارضه. استمرّ هذا السند الشعبي في فترة رئاسة السيسي الأولى، ولم يكن مطروحاً خلال هذه الفترة أن يتّجه الرئيس، ولو على مستوى الخطابين، السياسي والإعلامي، إلى الوعد بالإصلاحات أو الحوار، أو الانفتاح على لغة حقوق الإنسان. وقد شهدت هذه الفترة قرارات إخلاء سبيل بعض المعتقلين من حين إلى آخر، إما لحسابات سياسية داخلية أو استجابة لضغوط دولية رفيعة المستوى، تهدف إلى تحرير بعض الأسماء من المعتقلين، خصوصا من حملة الجنسيات الأجنبية، لكن الدولة كانت تتبع سياسة الإنكار والدفاع في مواجهة أي انتقاداتٍ دولية.
كان لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائمها التي ترتكبها حكومة السيسي في بداية حكمه ظهير شعبي واسع، حتى بين قطاعات من النخبة السياسية والفكرية التي أصبحت الآن تعارضه
لم يكن هناك أي مساحة لمعارضة النظام من الداخل، وتكوّنت نتيجة ذلك تحالفاتٌ نشطت بشكل عابر للحدود لمواجهة كارثة حقوق الإنسان في البلاد، لعب فيها النشطاء المصريون في الخارج أدواراً بارزة. وقد بدأ النظام الحاكم يواجه منعطفاتٍ داخليةً توحي ببداية انخفاض معدلات الرضا الشعبي مع اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية في سبتمبر/ أيلول 2019 في عدد من المدن المصرية، وذلك للمرة الأولى منذ يوليو/ تموز 2013. وقد واجهت السلطة هذه الاحتجاجات بموجةٍ واسعةٍ من اعتقالات عشوائية لمحتجّين ومواطنين عاديين من جميع الفئات والأعمار، واعتقالات أخرى استهدفت سياسيين ونشطاء كثيرين. وقد مثّل تشكيل تحالف الأمل الانتخابي بين برلمانيين سابقين، ورؤساء أحزاب، وإعلاميين، ورجال أعمال وقادة عمّاليين في يوليو/ تموز 2019 أول تحرّك ائتلافي في مواجهه الهيمنة السياسية للسلطة، وأجهزتها الأمنية على المؤسسات التمثيلية. الأمر الذي دفع السلطة إلى اعتقال قادته الذين استمرّوا في الحبس ومحاكمتهم حتى العفو عن بعضهم على مراحل خلال هذا العام.
ثم ألقت أزمة جائحة كوفيد - 19 بداية من عام 2020 بأعبائها الاقتصادية على الحكومة في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد المصري بالفعل من اختلالاتٍ هيكليةٍ تمثلت في ارتفاع الدين الخارجي، والانخفاض الحادّ لقيمة الجنية المصري، وزيادة معدلات التضخّم، وأخذت هذه الأعباء في التراكم مع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022. وتزامنت هذه الأعباء أيضاً مع وضعية دولية دقيقة، تمثلت في استعداد السلطات المصرية لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي الذي يعقد حالياً في شرم الشيخ، وتجميد الإدارة الأميركية جزءا من المساعدات العسكرية الأميركية لمصر مرتين متتاليتين في سبتمبر/ أيلول 2021 و2022، للضغط من أجل الإفراج عن قائمة محدّدة من سجناء الرأي. وعلى الرغم من أن الضغوط الخارجية لم تكن متّسقة، ونادراً ما هدّدت مصالح حيوية للنظام الحاكم، إلا أنها دفعت السلطات إلى تبنّي بعض التنازلات التكتيكية لتحسين صورتها الدولية، خصوصا مع تداعي الأزمة الاقتصادية الداخلية، وخطّة استقباله مؤتمر التغير المناخي في شرم الشيخ.
لم تعد شعبية السيسي بالقوة التي كانت عليها في بداية حكمه، ولم ينجح في تطبيق نموذج تنموي يجعله يستند إلى شرعية الإنجازين الاقتصادي والاجتماعي
بدأت السلطة تتخذ منحىً سياسيا مختلفا بداية من عام 2021 مع تشكيل لجنة الحوار التي ترأسها النائب البرلماني السابق ورئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد أنور السادات، وبعضوية برلمانيين وإعلامين بارزين، وقد استهدفت هذه اللجنة، بشكل خاص، الحوار مع المجتمع الدولي، ومع قطاعات من المصريين في الخارج. وقد نتج عن هذه الحوارات الإفراج عن معتقلين سياسيين ونشطاء حقوقيين بارزين في النصف الثاني من عام 2021، منهم سولافة مجدي ورامي شعث وإسراء عبد الفتاح. وتبنّت الحكومة في مؤتمر دولي عقد بالقاهرة في سبتمبر/ أيلول 2021 بحضور السيسي إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، والتي كانت موجّهة بشكل خاص إلى المجتمع الدولي، خصوصا بعد جملة الانتقادات الحادّة التي واجهتها الحكومة المصرية في الاستعراض الدوري الشامل في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. ثم أطلق السيسي مبادرة الحوار الوطني في إبريل/ نيسان 2022، وتم تشكيل لجنة العفو الرئاسي، والتي انتهت إلى قرارات إخلاء السبيل والعفو عن المعتقلين وسجناء الرأي. لكن السلطات تتبع وما زالت خطاباً مزدوجاً يجمع بين إصدار إشارات إصلاحية محدودة، مع استمرار آلة القمع والتضييق على المعارضين، فالنظام يريد التهدئة لأغراض تكتيكية، لكنه، في الوقت نفسه، يحرص على أن يُمسك بزمام الأمور، مستهدفاً أن تكون خطواته الإصلاحية المحدودة، في إطار دعم شرعية الرئيس وتجديدها، وليس لإحداث انفتاح سياسي يغيّر من الطبيعة الفردية، والأمنية للحكم. من ناحية أخرى، تتوالى، أخيرا، مؤشّرات عن حالة عدم الرضا لبعض الدوائر القريبة من السلطة الحاكمة، والتي تسعى إلى إحداث انفتاح نوعي في الحياة السياسية، منها الدعوة التي أطلقها محمد أنور السادات إلى الرئيس بعدم الترشّح في الانتخابات الرئاسية المقرّرة عام 2024، والبيان الصادر عن حزب المحافظين القريب من رموز نظام الرئيس السابق حسني مبارك، والذي طالب مؤسسة الرئاسة بالإفراج عن الناشط السياسي، علاء عبد الفتاح، وكل المعارضين وسجناء الرأي، وضرورة ضمان حرية الرأي "لتشجيع الحوار الوطني، وكدليل على وجود إرادة سياسية للسير في طريق دولة مدنية دستورية ديمقراطية حديثة"، والظهور الشعبي المتكرّر لجمال مبارك باعتباره بديلا محتملا في المستقبل. وأخيراً ما تردّد، أخيرا، في تقارير إعلامية دولية عن استقالة ستة ضباط كبار من جهاز المخابرات العامة اعتراضاً على سياسات الرئيس، وطريقة تسيير الشؤون الاقتصادية في الدولة.
الظروف الدرامية التي أتت بالسيسي للسلطة في سياق إنهاء نظام ديمقراطي وليد، وما تبعه من مواجهات شرسة مع كل الفصائل السياسية تجعله يتردّد كثيراً قبل الشروع في أي انفتاح سياسي، كما أن قطاعا من القيادات الأمنية والعسكرية، والفئات المحيطة بالرئيس والمستفيدة من النظام الحالي تؤمن بأن أي انفتاح مماثل لما كان في عهد مبارك قبل ثورة يناير (2011) سيعرّض النظام الحاكم بأكمله للخطر، إلا أن شعبية عبد الفتاح السيسي لم تعد بالقوة التي كانت عليها في بداية حكمه، ولم ينجح في تطبيق نموذج تنموي يجعله يستند إلى شرعية الإنجازين الاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي يتيح فرصة أمام المعارضة المصرية أن تسعى الآن بكل قوة إلى استغلال الفرصة والضغط بشكل استراتيجي عبر آلية الحوار الوطني، أو غيرها من آليات ضغط لتوسيع مساحة الحريات العامة، وفتح المجال السياسي، وألا تتماهى مع أجندة السلطة، قبل أن يتغيّر المشهد كلية، وتشتدّ آلة القمع مرّة أخرى.