طمس الجرائم في غزّة: شهادة من إسرائيل
بعد أيام من إعلان المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، طلبه من الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة إصدار مذكّرات توقيف ضد بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، كتب أول مدّعٍ عام للمحكمة، لويس مورينو أوكامبو، في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، أن الطريق الأوحد أمام إسرائيل لتجنّب المحاسبة أمام المحكمة أن تظهر للمجتمع الدولي أنها راغبة وقادرة على التحقيق في الجرائم التي ارتكبها جيشها في غزّة، ومحاسبة المسؤولين عنها أمام القضاء الوطني. يقصد أوكامبو هنا إمكانية إعمال مبدأ التكامل، وهو أحد المبادئ الأساسية المنصوص عليه في المادة الـ 17 من نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، والذي يمكن بموجبه للمحكمة عدم قبول نظر قضية، إذا أثبتت السلطات الوطنية أنها تتعامل بالفعل مع قضيةٍ تعكس بشكلٍ كافٍ ما تقوم به المحكمة. ... على سبيل المثال، أعلنت دائرة الاستئناف في محكمة الجنايات الدولية في يوليو/ تموز2014 أن القضية ضد رئيس المخابرات الليبي السابق، عبد الله السنوسي، غير مقبولة، لأنها "كانت تخضع لإجراءاتٍ محليةٍ جارية تقوم بها السلطات الليبية المختصة، وأن ليبيا كانت مستعدّة وقادرة على إجراء مثل هذا التحقيق". أثير هذا المبدأ في معظم القضايا التي مارست المحكمة فيها اختصاصها الدولي، وهي طريقة تعتمدها الدول عادة للتحايل على إجراءات المحكمة وكسب الوقت.
تراهن إسرائيل على خداع المجتمع الدولي والمحكمة، عبر تصوير أن هناك إجراءات تحقيق ومحاسبة تتّخذها محلياً لتعطيل عمل المدّعي العام والمحكمة. وبحسب تقرير نشر في مايو/ أيار في مواقع إعلامية إسرائيلية وفي الصحافة البريطانية، تجسّست إسرائيل على مكتب المدّعي العام للمحكمة، والمحامين والحقوقيين المشتغلين على القضية في لاهاي، لمعرفة الوقائع العسكرية المحدّدة التي يحقّق فيها المدّعي العام. وقد تمثّل الهدف المركزي لعملية المراقبة الإسرائيلية أنه تمكين الجيش من "فتح تحقيقاتٍ بأثر رجعي" في حالات العنف ضد الفلسطينيين التي تصل إلى مكتب المدّعي العام في لاهاي. ومن خلال ذلك، تسعى إسرائيل لاستغلال مبدأ التكامل لتعطيل المحكمة الدولية. وبالفعل، أعلن جيش الاحتلال في أول مايو/ أيار، وقبل إعلان المدّعي العام طلبه إصدار مذكرات التوقيف، فتح عشرات ملفات التحقيق ضد أفراد من الجيش الإسرائيلي مشتبه في ضلوعهم في ارتكاب جرائم حرب، بالتزامن مع تصريحات من المدّعية العامة الإسرائيلية عن استعداد مكتبها للتحقيق ضد أي متورّط، سواء من السياسيين أو العسكر. ولكن تقريراً نشرته قبل أيام المنظمة الحقوقية الإسرائيلية ييش دين (متطوّعون من أجل حقوق الإنسان) تضمّن تفاصيل خطّة الخداع الإسرائيلية للمحكمة الدولية، وأكّد تواطؤ الجهات القضائية والعسكرية والسياسية في إسرائيل لطمس الجرائم، ومساعدة مرتكبيها على الإفلات من العقاب. يظهر التقرير الذي جاء بعنوان "جهاز الطمس التابع للقيادة العامة - ممارسات جهاز فرض القانون الإسرائيلي بما يتعلّق بخرق القانون الدولي وجرائم الحرب في غزّة" أن السلطات القضائية الإسرائيلية، في مقدّمتها جهاز فرض القانون امتنع عمداً عن التحقيق مع صانعي القرار وأصحاب الرتب العليا في الجيش، بل إنه أعطى الحصانة التامة للضباط والجنود الضالعين في قتل الفلسطينيين في غزّة، وفي الحالات النادرة التي دين فيها أفرادٌ من الجيش تكون العقوبة هزلية. ويؤكّد التقرير أن الوظيفة الفعلية لجهاز فرض القانون العسكري هو الحفاظ على صورية جهازٍ يعمل بهدف مساعدة إسرائيل على التهرّب من المحاسبة، وخداع محكمة الجنايات الدولية. عن حرب غزّة تقول "ييش دين" "إنها واحدة من أكثر الحروب تدميراً في القرن الحالي. إن حجم الخسائر البشرية بين المدنيين غير معتاد مقارنة بالحروب الأخرى في القرن الواحد والعشرين، وهو أكبر من الهجمات الإسرائيلية السابقة التي شُنّت على قطاع غزّة. لقد كانت نتائج هذه الحرب كارثية".
امتنع جهاز فرض القانون عمداً عن التحقيق مع صانعي القرار وأصحاب الرتب العليا في الجيش
ويضيف التقرير أنه جرى، منذ بداية الحرب، سجن آلاف من سكان غزّة، بمن فيهم أشخاص كانوا موجودين في إسرائيل بشكل قانوني عند اندلاع الحرب، في ظروفٍ غير إنسانية وفي عزلة تامة عن العالم. ويرصد التقرير انتشار عمليات النهب وإساءة معاملة المحتجزين وإذلال النساء بشكل واسع بواسطة الجيش الإسرائيلي. وجاء فيه أن الجنود الإسرائيليين نشروا مقاطع فيديو وصوراً لأنفسهم وهم ينهبون الممتلكات، ويذلّون المعتقلين الفلسطينيين ويتباهون بارتداء الملابس الداخلية للنساء الفلسطينيات.
منظمة يش دين، التي تأسّست عام 2005، واحدة من منظمات حقوقية إسرائيلية أخرى تنشط محلياً ودولياً ضد وحشية الاحتلال، والتي استهدفتها السلطات الإسرائيلية على مدار العقد الأخير، وحاولت إسكاتها بطرق مختلفة، وتأليب الرأي العام الإسرائيلي ضدها. قد يكون مضمون تقريرها عادياً بالنسبة إلينا في الدول العربية، نشاهد الجرم الإسرائيلي يومياً على الهواء مباشرة، لكن التقرير يبقى، من الناحية القانونية، وثيقة مهمّة لما يمثله من إدانة حقوقية لإسرائيل من داخلها. ومن المفترض أن يكون من الوثائق التي سيعتمد عليها المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في تقييم أكاذيب إسرائيل بأن سلطاتها تحقّق في الوقائع والجرائم نفسها التي تختصّ بها المحكمة الدولية حالياً.