الصحراء والتعبير عن الرأي

06 أكتوبر 2024

(أحمد الشرقاوي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

مجرّد تبرير، وهو ذاتي صرف، أسوقه هنا لأعبر عن ضيق شخصي من ظروفٍ أصبحت في مغرب اليوم "تتشخّص" تدريجياً في موانع محدّدة لاشعورية تقريباً، غير مسنونة، يراها كل باحث أو محلّل يريد، من زاوية الوعي النقدي، أن يتحدَّث عن قضية الصحراء في العموم، أو عن "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب"، المعروفة اختصاراً ببوليساريو، في الخصوص، أو عنهما معاً بحكم الاتصال. وأرى، تبعاً لذاك، أن من النادر أن تجد اليوم من يبلور رأياً، أو يطوّر مفهوماً، أو يعرض تحليلاً سياسياً في علاقة بالموضوعين المذكورين، ولا يتصوّر مبدئياً أنه يخوض فيما يُؤوَّل عادة أنه معادٍ للموقف الرسمي، أو موالٍ للخصوم (أعداء الوطن) أو هو في سبيل الارتزاق. وآية ذلك أن الموقف الرسمي القائل بمغربية الصحراء التي هي جزء من أرض عليها سيادة وتاريخ وولاء الصحراويين "للبيعة"، في مواجهة الخصم الذي "يقدّس" مبدأ تقرير المصير، وما يتفرع عنه من تصوّرات واتهامات، شَكَّلَ من حوله، بناء على تصور تاريخي وتجارب ميدانية وشعارات دعائية، ما يمكن وصفه بالرأي العام المستند على قناعة سياسية وتاريخية على علاقةٍ بالتحرير والسيادة الوطنية. ومفهوم الرأي العام هنا أنه موقفٌ راسخ، وإنْ يكن في تحوّل متفاوت تمليه الظرفيات والاستخدام المتواصل "للحجة الوثوقية" في ديناميةٍ ما (حوار، تفاوض، أو صراع)، ولكنه لا يحيد عن المبرّرات التي حوّلته، في خمسة عقود تقريباً، إلى خطط استراتيجية في الدفاع عن القضية (وهي بحكم الطبيعة وطنية)، وفي مواجهة الخصوم (هم خصوم معارضون تلك القضية)، وكذا في تحديد السياسات الواجب اتّباعها في كل ظرف ومرحلة، ورسم الاختيارات المطلوبة، تبعاً للتطورات الجارية على صعيد من الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.

والحقيقة أنه بسبب هذا الاقتناع القطعي، وهو يتحوّل باستمرار إلى ما يُطْلَقُ عليه "دُوغْمَا" (خصائص لا تقبل النقاش في نظر الأتباع)، تماماً كما يحدُث في تصوّرات دينية كثيرة حينما تنغلق على التصوّر "المانوي"، حيثما يتبلور الشعور الخاص بالاستحالة، أو بالمنع، أو بهما معاً دفعة واحدة، إلى نوع من المغامرة التي قد تثير من حولها، في الشروط التي تكون فيها الحرية الفكرية مطلباً ومطلوبة، ما لا يمكن توقّعه من الأفعال ومن ردودها. مع التفكير مسبقاً في فكرة "الضحية" التي قد تنتج عن سوء التأويل للغرض المُراد من التحليل، أو التعبير عن الرأي، أو صياغة موقف سياسي مباشر.

تحليلي لهذه الوضعية الاستثنائية تقريباً ينطلق من اعتبارين: أولهما أن الحديث عن قضية الصحراء، في العموم وفي الخصوص كذلك، أصبح محفوفاً بموانع كثيرة، موضوعية وذاتية (شخصية أيضاً) تحوله إلى "موضوع" زَلِق، قد يقود من يتكلم فيه، حين يتجرّأ عليه، إلى ما لا تحمده إرادته وتوقعه، أو إرادة السلطة الحاكمة وأهواؤها. وينجم هذا، في الغالب، عن سوء الفهم المؤكّد الذي يثيره الموضوع، وأيضاً عن التأويل الخاص الذي يجعل منه بؤرةً رمزيةً لمختلف التداعيات، أو الأوهام، أو الصيغ التعبيرية ذات الصفة المطلقة التي لا تفيد إلا في التخوين، وتنجح كذلك في استعداء السلطة ضد المختلف صاحب الرأي الحر. أضيف إلى هذا ما يمكن وصفها بالهَيْبَة التي غالباً ما تستبدّ بأي متكلم في الموضوع، فيصوغ كلامه على نحو يُراد به، في الغالب، الاتفاق، أو الاختلاف مع الرأي السائد المكرّس (العَوْنُ والنَّصْر)، فَيُحْمَد قوله، أو لا يُحْمَد فيكون من الخاسرين (الإسَاءة والظلم)، لا من خلال الرفض فقط، بل كذلك من زاوية الخذلان، لأن رأيه جاء على خلاف ما هو عليه السائد أو الثابت المُزَكّي بضرب معيّن من ضروب التزكية المعروضة في الحقل السياسي وغير السياسي.

السلطة الحاكمة وحدَها هي التي تفتي في الشأن الصحراوي بما تراه من مواقف وتصوّرات وسياسات

أما الاعتبار الثاني، وأعرضه من خلال القرائن المعروفة، فهو المتعلق بما للدولة الجزائرية من أدوار في الصراع الجاري حول قضية الصحراء منذ أزيد من 40 سنة. من ذلك أنها كانت مشاركة مُدَعّمة في الحروب التي خيضت ضد المغرب في أواسط السبعينيات، وأنها كذلك دولة معنية تحوّلت إلى طرف محوري في الصراع، وأنها "أسكنت" على تراب جمهوريتها الواسعة، ضدّاً على دستورها، "جمهورية" أخرى لها جيشها المسلح ومنظّماتها الموازية وبرامجها المعادية لجارتها الغربية ... إلخ، فضلاً عن القرارات الخاصة التي استصدرتها، في مسار العلاقة الثنائية (اللاّعلاقة)، على امتداد مراحل الصراع، حين حولت البلد الجار، سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً وإنسانياً وتنافسياً، بمبرّرات مختلفة، المعقول منها والمفتعل، إلى عدو لدود تنشر حوله، في جميع المحافل واللقاءات، ما لا يطيق عاقلٌ سماعه من المواقف والتصوّرات المتنوعة. ولا يعني هذا أن المغرب لم يقابل ذلك رسمياً، وعلى المستوى الشعبي كذلك، بما في مستواه أو أكثر، بحكم الحرب المكتومة بين البلدين، فزاد من حدّة التوتر، وهو يهيئ له أسباب الانفجار ودواعيه في أي وقت، إلا أن الكفتين، مع ذلك، فيما يبدو لي من ناحية القوة والافتعال، غير متكافئتين، ويصعب على الملاحظ المحايد، مع الأخذ بالاعتبار الصمت المغربي حيال الأقاويل الدعائية، أو المواقف الرسمية، أن يثني على الدولة الجزائرية بأي ثناء، إلا إذا كان مجاملة تكرّس، عادة، ما يثار في الإعلام الرسمي وفي مواقع التواصل الاجتماعي من صيغ العداوة والتشفّي والكراهية التي أصبحت جميعها معمّمة، بهذا القدر أو ذاك من العنف اللفظي، بين فئات معيّنة من الشعبين.

لهذين الاعتبارين، وهناك أخرى على الأرجح، أمسى الاقتراب من موضوع الصحراء كالاقتراب من النار تماماً تصيب المستجير بها، إنْ وُجِد، بالحُرَق، وعليه، مع الألم، أن يصرخ بما تقوله السلطة عن القضية الوطنية بصوت واحد فيه التمثيل الأقصى للهوية وللسيادة ولوحدة الصف وسوى ذلك، فالسلطة الحاكمة وحدَها هي التي تفتي في الشأن الصحراوي بما تراه من مواقف وتصوّرات وسياسات، وإنْ وجد متدخلون بالمخالفة، أو بالنقد، أو بالمعارضة، فليس أمامهم، إن قرّروا ذلك، إلا أن يكونوا من زمرة المعارضين السياسيين العدميين، أو ضمن طابور الموالين الغلاة. من دون أن يعني ذلك كله أن للموقف التاريخي، أو السياسي من قضية الصحراء، علاقة أصلاً بمبدأ تقرير المصير الذي حولته "بوليساريو"، كما قلت، إلى "مقدّس"، وترتكز عليه الدولة الجزائرية في دعمها الانفصال عن المغرب، أو بأطروحة "مغربية الصحراء" التي هي الأساس التاريخي للسيادة المغربية على الأرض، بالإضافة إلى مقترح الحكم الذاتي حلاً متفرعاً عن تقرير المصير غير المقدّس، ومقبول في إطار اقتسام الحكم أو السلطة (الجهوية الموسّعة) تحت سيادة الدولة المركزية.

أمسى الاقتراب من موضوع الصحراء كالاقتراب من النار تماماً تصيب المستجير بها، إنْ وُجِد، بالحُرَق

والمراد من ذكر هذا كله هو الوصول إلى الفكرة: أن احتكار الرأي في الحديث أو تحليل القضية الصحراوية، ومثله حَبْسُ الحديث، أو التحليل المتصل به، عن "الجبهة الشعبية"، أو جمهوريتها المفترضة التي تحتكر التمثيل "الهوياتي" للصحراويين وحدها بدون سند، وركنه في دائرة التخوين أو المنع، هو أكثر ما يسيء إلى حرية التعبير عن الرأي، أو التصريح بالموقف، بل لعله في الإساءة أعنف من الأشكال القانونية أو الصيغ التوافقية التي تُصْطَنَع عادة لتبرير قضية من القضايا. والحال أن الموقف المبدئي، المبني على أساس تاريخي مكين، عليه الأدلة والوثائق الدامغة، ليس في حاجةٍ، مهما كان الاختلاف في التقدير كبيراً، أو النقد الصريح قوياً، لأي حافز استثنائي، وقد تكون له طبيعة إكراهية، للظهور بأي مظهر كان في انسجامه أو تناقضه. ولا يعيب السلطة، وإنْ لم تكن ديمقراطية، أن يكون بين مؤسّساتها أو مواطنيها من يرى خلاف ما تراه، على الأقل في الحدود المقبولة التي تراعيها وترعاها لـ"الوحدة الوطنية" والاستقرار والسلم. أما فكرة معاقبة المخالفين لها في الرأي والموقف لتحييدهم قصداً، أو استعداء الناس عليهم، فقد دلّت تجارب التوافق السياسي، ولو من باب الاحتمال، أن فيه إغناء للموقف المُسْنَد وإحقاقاً للرأي المخالف المشروع.

ومهما بدا هذا القول ذا طبيعة أخلاقيةٍ ترتبط ربما بِحُسْنِ السلوك السياسي في المجال الديمقراطي المفترض، ففيه ما في العمل بالاختيار الديمقراطي المُدَّعى من حقوق، لعل أعظمها في المجال السياسي هو الحرية المصونة للأقلية، وهي حرية ومساحة تفكير، للتعبير عن الاختلاف الذي لا يُفسد للقضية مغربيّتَها أو تقريرَ مصيرها، إنْ وجد كل رأي بالقدر الكافي من الوضوح والتعليل والأهمية والأساسات التي تزكّيه في المنطلق. وهو ما يعني، في رأيي، قصد رفع الاستثناء عن القضية والاحتكار عن الموقف، أن موضوع الصحراء، وهو بالفعل موضوع وطني تناصره الأغلبية، ومثله موضوع "الجبهة الشعبية..."، إذا ما عرضنا لهما بالنقد، أو بالتحليل، فلأنهما موضوعان يحظيان بالمتابعة والاهتمام على نطاق واسع، ولفئاتٍ عريضةٍ من المجتمع التزامات سياسية وأخلاقية ومالية وإنسانية فيها ما يكفي من الدواعي الكفيلة برفع طابع الاستثناء الشعوري الذي يثيرانه في النفوس، وإقرار الحقّ في التعبير الحر عن السياسات المتعبة في تدبيرهما على مستوى الممارسة.