هذه الحفلة التنكّرية في مصر
ما يدور في مصر الآن يشي بأنّ كلّ أطراف اللعبة السياسية منخرطون في حفلٍ تنكّري هائل، يؤدّون أدوارًا ويلبسون شخصيات غير شخصياتهم الأصلية، ويندمجون في عرض مثير في إبهاره وإمكاناته الفنية الضخمة، بما يجعل قطاعًا غير قليلٍ من الجمهور يصدّق أنه أمام حقائق تجري على الأرض، وليس بصدد عملية مسرحةٍ مدروسةٍ لواقع اصطناعي جديد.
يرتدي متّهم رئيس في الجريمة المشهورة باسم "موقعة الجمل" في العام 2011 أزياء زعيم سياسي اخترعوا له تيارًا، وأطلقوا عليه اسم "تيار الاستقلال"، ووضعوه على رأسه مرشحًا منافسًا للجنرال عبد الفتاح السيسي في انتخابات، يقال إنها سوف تأتي قبل موعدها المحدّد، ثم يتحدّث عن ضرورة التغيير والذهاب إلى الديمقراطية فورًا ومن دون إبطاء. وفي اللحظة الدرامية ذاتها، يتشكّل تيار مضاد يسمّي نفسه "التيار الحر"، يضع على رأسه قبّعة ليبرالية تتلألأ ألوانها من بعيد، ويطلق مدفعية تصريحاته الزاعقة عن حتمية التغيير الآن، وليس غدًا ولزومية الانتخابات الرئاسية القادمة للخروج بمصر من مأزقها.
وفي الأثناء، يواصل الناصري الحمديني المنشأ والملمح الشاب، أحمد طنطاوي، العائد من المنفى البيروتي السريع بترحاب كبير من أجهزة السلطة، يواصل إطلالاتِه الانتخابية الملفتة، من مقرّ حملته أو خلال زياراته السلسة للغاية إلى مناطق عدّة، فيما كان حزب الوفد الجديد كليًا قد أطلق يمامته، معلنًا خوض المعركة أمام الجنرال الذي يضعه الحزب في مرتبة الزعماء التاريخيين أصحاب التماثيل الموضوعة في الميادين.
تبلغ الإثارة ذروتها بإطلاق الاسم الأكثر التصاقًا بثورة يناير، وائل غنيم، من منصّة "تحيا مصر"، حاملًا مرّة بطيخة ومرة أخرى مرتديًا ملابس حملة "رئيسه المحبوب" المسمّاة "حياة كريمة"، وموجّهًا مدفعية البث المباشر الثقيلة إلى جمهور عريض اعتبره ذات يوم أيقونة من أيقونات الثورة، متحدثًا عن عظمة الرئيس وضرورة الاصطفاف خلفه من أجل الوطن الذي عاد إليه من الولايات المتحدة، بعد فاصلٍ من الإطلالات العدمية شديدة الإتقان والإحكام، اعتذر من خلالها عن كلّ ما سبق، معلنًا توبتَه عن الثورة والمطالبة بالتغيير والديمقراطية.
لكن السخونة لا تقف عن هذه النقطة، إذ تمّت تهيئة المنصّات الإعلامية المصرية، صحفًا وقنواتٍ تلفزيونية، بالإضافة إلى "سكاي نيوز" و"العربية" بالضرورة، لتلقف كلّ ما يصدر عن غنيم وبثّه للجمهور بالسرعة القصوى، من دون مراجعةٍ أو تدقيق، هكذا كانت التوجيهات من صاحب سلطة التوجيه، وهو ما يمكن رصدُه بسهولة، خلال الأيام القليلة الماضية التي بدأت بلقطة البطّيخة.
في هذا الحفل التنكري الكبير، يظهر الشخص الذي ارتبط في أذهان الناس بالتغيير الجذري، منكرًا ومتنكرًا للحراك والثورة، وما ارتبط بهما من شعاراتٍ وآليات، معتنقًا مثل عجوز على مشارف السبعين أفكار طاعة ولي الأمر، ولو كان ظالمًا ومستبدًا، ومبشّرًا بقيم الاستقرار والسكون والخمول، متماهيًا مع مقولات معتز بالله عبد الفتاح عن حتمية أن يدافع الشعب عن حاكمه الظالم المستبدّ، ويفديه بالروح والدم، وإن جلد ظهره وطحن عظامه.
يزداد العرض سخونة، بظهور المذيع توفيق عكاشة، صاحب الصولات والجولات ضد كلّ ما له علاقة بالثورة والديمقراطية والتغيير، والذي حذّر الشعب يومًا من الثوار الذين هم عملاء الماسونية العالمية، وحرّض الناس ضد محمد البرادعي لكونه ليس من هذه البلاد، لأنه لا يعلم ثمن ربطة الجرجير، ولا يعرف كيف تمارس الفلاحات تزغيط البط، وبالتالي لا يصلح لحكم مصر، يطلّ عكاشة هذه المرّة في ملابس كهنة الليبرالية، مباركًا تشكيل التيار الليبرالي الحرّ وداعمًا خطواته.
هكذا يتبادل عكاشة وغنيم الأدوار، بحسب السيناريو الموضوع بدقة فائقة، والذي يمنح مساحاتٍ لكلّ الأفكار والاتجاهات، مستهدفًا نقطة محورية وحيدة: اقتلاع أحلام يناير وذكرياتها من وجدان جمهور العرض المستهدف، بحيث يبدو تقديم وائل غنيم في طوره الجديد إعلانًا لوفاة الثورة وهزيمة كل ما يمثلها، في مقابل إعلاء كلّ ما يعبّر عن الثورة المضادّة والانقلاب عليها، بحيث تقتصر البيئة السياسية المصرية على مكوّنات 30 يونيو في ذكراها العاشرة لتصبح هي المظلّة الوحيدة للسلطة والمعارضة المنتمية لها معًا.
حتى الجمهور الذي هو ضحية هذا الكرنفال التنكّري الواسع يبدو في قطاع منه متناغمًا مع هذه الحالة التنكّرية الإنكارية، مردّدًا من باب الاستسهال ما يُراد سماعه منه، من قبيل إنّ الحالة التي أوصلوا وائل غنيم إليها هي بمثابة شهادة وفاة للجيل كله، وإحراق لفكرة ثورة الجماهير وإمكانية حدوثها مرًة أخرى، ليُسدل الستار في نهاية العرض على جملة عريضة تقول: الحلم بالتغيير مرادف للهلاك.