هذه الانتخابات المحلية الضعيفة في تونس

29 ديسمبر 2023

شاشة في العاصمة تونس تظهر عليها نتائج الانتخابات المحلية (27/12/2023/الأناضول)

+ الخط -

أبرزت نتائج الانتخابات المحلية في تونس التي انتظمت أخيرا نسب مشاركة ضعيفة، لا تكاد تزيد عن 11%، وهي انتخاباتُ حرصت السلطات على توفير كل أسباب النجاح لها، من إعداد لوجستي وموارد مالية هامة وعتاد بشري، وهيئة مستقلة للانتخابات سخرت لها الدولة كل الإمكانات وكل الظروف الملائمة للعمل على إنجاح هذه المحطّة الانتخابية، فرغم الحملات التوعوية عن أهمية هذه الانتخابات وطبيعتها ومهام المجالس المحلية التي ستفرزها وموقعها من المجالس الجهوية والأقاليم والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، تمت هذه الانتخابات في أجواء باهتة، من دون حملات انتخابية مؤثّرة وصاخبة، وطغت المشاغل اليومية للمواطن على الاهتمام بالاستحقاقات الانتخابية، فكان العزوف والتجاهل سيد الموقف، وآثر التونسيون الاعتكاف في منازلهم في أجواء شتويةٍ باردة، أو الانصراف إلى شؤونهم وأعمالهم على التوجّه إلى مراكز الاقتراع، فهل من مبرّرٍ لهذا العزوف الذي أضحى حلقة من سلسلة بدأت منذ الانتخابات التشريعية التي كانت نسب المشاركة فيها متدنّية، جعلت بعضهم يشكّك في مشروعية مجلس نواب الشعب وتمثيليته؟ وهل سيكون مصير الانتخابات المقبلة الجهوية والبلدية والوطنية كسابقاتها؟ هل فقد المواطن التونسي كل اهتمام بالشأن العام، وغلّب شؤونه الخاصة على العامة؟ أم هو موقف سياسي مقاطع واع ومسؤول بتبعات المقاطعة على المسار السياسي الذي تلا 25 يوليو/ تموز 2021؟
لنسب المشاركة في أي استحقاق انتخابي أهمية بالغة، لأنها تعبّر عن درجة انخراط المواطنين في الحياة العامة، ووعيهم بضرورة المشاركة في بناء أي مسار سياسي، وحرصهم على أن يكونوا ممثلين في المجالس المنتخبة، حتى تعبّر عن إرادتهم وتعكس تطلعاتهم ورؤاهم وانتظاراتهم من المؤسّسات السياسية التي سترسم معالمها إثر الانتخابات، فكلما ارتفعت نسب المشاركة اكتسبت العملية الانتخابية مصداقيةً ونجاعةً وشرعية، وكانت المؤسّسات المنبثقة عنها ذات مشروعية وتمثيلية محترمة، وتوطّدت روابط الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتعزّزت الممارسة الديمقراطية بروافد شعبية متأتّية من الإرادة القوية لجمهور الناخبين، إرادة توجّه صاحب السلطة وتردعه عن التعسّف في استعمالها والاستبداد والتفرّد بالرأي. لذلك يحرص القائمون على العملية الانتخابية، والمشاركون فيها على حشد صفوف الناخبين واستمالتهم، والتأثير فيهم من أجل التوجّه بكثافة إلى صناديق الاقتراع. وهذا الأمر لم يحصل في تونس في المحطتين الانتخابيتين الأخيرتين، منذ بدء مسار 25 يوليو وحلّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد مجلس النواب وإقالته رئيس الحكومة، وإطاحته حكم حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، وشركاءها.

المعلوم أن الرئيس قيس سعيّد لا يعترف بالكيانات الوسيطة، ولا يستسيغ العمل الحزبي

الأسبابُ عديدةٌ لضعف الانخراط في العملية السياسية التي تلت هذا التحول السلطوي، حاول الناطق الرسمي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، محمد تليلي منصري، طرحها في لقاء تلفزيوني، معتبرا أنها أسباب عديدة ينبغي تقييمها موضوعيا، وأنه يجب احترام إرادة الذين امتنعوا عن التصويت، مبرزا كذلك تأثير غياب الأحزاب على نسب المشاركة المتدنية. وفي الواقع، يقتضي البحث في الأسباب التعمّق أكثر من ذلك، ويضع الهيئة التي يتحدّث باسمها، والتي تتحمّل جانبا من المسؤولية لا يستهان به:
أول الأسباب، تزامن هذا المسار السياسي الجديد مع شيطنة الأحزاب، ووصمها بالفساد وبترذيل الحياة السياسية، والسعي، تبعا لذلك، إلى تحجيم دورها، ولا سيما عبر اختيار نظام اقتراع يقوم على الأفراد، لا على القوائم، الأمر الذي أدّى إلى مقاطعة أحزابٍ فاعلةٍ للانتخابات، معلنة بذلك رفضها مسار 25 جويليه (يوليو) الذي تعتبره انقلابا على الشرعية وارتدادا عن الديمقراطية، ويعتبر حلّ البرلمان المنتخب وملاحقة قادة أحزاب قضائيا واتهامهم بالفساد والتآمر على الدولة منعطفا جوهريا في عزل الأحزاب، والإمعان في إقصائها من المشهد السياسي. والمعلوم أن الرئيس قيس سعيّد لا يعترف بالكيانات الوسيطة، ولا يستسيغ العمل الحزبي، بل سعى منذ "35 جويليه" إلى غلق أبواب رئاسة الجمهورية تدريجيا في وجه الأحزاب، بمختلف أطيافها وتوجّهاتها، بما في ذلك المؤيدة له، والداعمة لنهجه التصحيحي للثورة. وشن حروبا كلامية على أطراف بعينها، من دون أن يسمّيها، واعتبر أنها تخطّط في جنح الظلام، وفي الغرف المغلقة، لإطاحته وللتآمر على الشعب، ولم يكن يدرك أو تناسى أن الأحزاب، على عللها، تمثل قوة دفع للحياة السياسية، بما تملكه من أدوات لتعبئة الجمهور وحشد المواطنين، وتأطيرهم وتحفيزهم على خوض غمار الشأن العام، فمقاطعة أحزاب عديدة المسار الانتخابي ما بعد "25 جويليه"، واعتباره مسارا انقلابيا وعجز بقية الأحزاب المؤيدة له عن سدّ الفراغ وحشد الصفوف، وخصوصا أنها اضطرّت للعمل عبر ترشيحات فردية، لا تعبّر عن هويتها الحزبية، ورضيت بذلك مكرهة، علها تغنم تمثيلية برلمانية محترمة، تحلّ من خلالها محل الأحزاب الوازنة، إلا أن مشاركتها في الانتخابات البرلمانية في السنة الماضية فاقمت ضعفها وتشرذمها وسط حملات التشويه التي طاولت هذه الأحزاب، والمنتمين إليها من المترشّحين، وكان الرئيس قيس سعيّد يسعى ضمنا إلى اقتيادها إلى حتفها، بتفريغها من أهم آليات عملها، ومن أبرز أدوات تأثيرها، مُجبرا إياها على التخفي في جبة الأفراد الفضفاضة التي لم تستسغ التأقلم معها، والتماهي مع مقتضياتها، وهو ماض بذلك، لا يعوقه عائق في تحقيق مشروعه المرتكز على البناء القاعدي، وعلى تهميش دور الأحزاب، بوصفها كيانات جماعية، وإعلاء شأن الفرد، هذا الفرد الذي وجد نفسه يواجه آلة انتخابية معقدة، وترسانة من القواعد والمؤسّسات، وهو مجرّد من الأسلحة الضرورية للفوز المستحقّ بشرعية انتخابية.

الشعب التونسي شارك في ثلاث محطّات انتخابية في حيز زمني لا يتجاوز الثلاث سنوات

ثانيا، هذه الانتخابات المحلية هي الأولى من نوعها في البلاد التونسية، وتندرج في إطار بناء المؤسّسات التي أرساها الدستور الجديد إثر استفتاء 25 يوليو/ تموز 2022، فالمجلس المحلي تليه المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم، ليفضي إلى تركيز المجلس الوطني للجهات والأقاليم الذي يعدّ الغرفة التشريعية الثانية إلى جانب مجلس نواب الشعب، ويمثل بذلك بناءً مؤسّساتيا مترابطا ومعقدا ومرهقا، يصبّ في خانة تنفيذ المشروع القاعدي الذي تبنّاه الرئيس سعيّد بصورة انفرادية، وأسقطه على الفاعلين السياسيين وعلى مؤسّسات الدولة، لتسهر على تنزيله على أرض الواقع، الأمر الذي جعل الشعب التونسي يشارك في ثلاث محطّات انتخابية في حيز زمني لا يتجاوز الثلاث سنوات، فمن استفتاء على الدستور، مرورا بانتخابات تشريعية وانتهاء بانتخابات مجالس محلية بمعدل استحقاق انتخابي كل أقلّ من سنة. 
وتنتظر التونسيين في ظرف زمني وشيك انتخابات مجالس جهوية، أضف إلى ذلك أن البرلمان لم يتم السنتين من عمره، ما جعل المواطن مرهقا انتخابيا وغير واع بطبيعة هذه الاستحقاقات وجدواها وتداعياتها على وضعه الاجتماعي والاقتصادي، وبرز ذلك جليا في الانتخابات أخيرا، فعلى الرغم من الومضات الإشهارية المكثفة في كل وسائل الإعلام والحملات عن المجالس التي سيتم انتخابها محليا ووظائفها، وعن طبيعة العملية الانتخابية وموضعها في الخريطة المؤسّساتية الجديدة، بقيت الأمور ملتبسة وغامضة على الناخب، ولم يستطع فك طلاسمها، وخلط بينها وبين الانتخابات البلدية التي طال انتظارها، وهو المعتاد على مناسبتين أساسيتين من الانتخابات التشريعية والرئاسية تنجز كل خمس سنوات، واضحتين من حيث المعايير والمعالم.

الإرساليات القصيرة التي اجتهدت الهيئة في تكثيف إرسالها إلى جمهور الناخبين أضحت محلّ تندّر على مواقع التواصل الاجتماعي

ثالثا، يبحث هذا الناخب الذي قاطع الانتخابات أو تجاهلها أو نسيها في خضم مشاغله اليومية، والذي لا يمكن إرغامه على المشاركة والإدلاء بصوته، عن بارقة أمل لم يجدها في هذا المسار الانتخابي المضني، فهو، على الأغلب، مواطن عادي، يكدح ليحصل قوت يومه وليعيل أبناءه، وليوفر لهم متطلبات الحياة الأساسية. ينتظر من الساسة أن يحسّنوا أوضاعه المعيشية، وأن يرتقوا به اجتماعيا واقتصاديا ليؤمن لنفسه ولعائلته حياة كريمة، فتتحسّن مقدرته الشرائية، وتتوفر له المرافق الضرورية، ولا يضطر إلى ركوب قوارب الموت، ليبحث عن جنة موعودة على ضفة أخرى، لكنه يصطدم بواقع مرير، جعل أوضاعه تتدهور باضطراد منذ الثورة التي علق عليها آمالا وانتظاراتٍ كثيرة. ولم يجد من يبعث فيه التفاؤل ببوادر إصلاح وتغيير، ونفد صبره وهو يستمع إلى خطاباتٍ طويلةٍ ومنمّقة، وأحيانا هلامية وغير مفهومة لرئيسه، يتوعد فيها ويهدّد المفسدين والمتلاعبين بقوت الشعب بالمحاسبة والعقاب، فهل غيّرت الانتخابات التشريعية وضعه البائس؟ وهل ستزيح الانتخابات المحلية الجديدة أزمة الثقة التي تعتريه تجاه كل الحكام والمؤسّسات؟ وهل ستجلب له الانتخابات المقبلة الرفاهة والمشاريع الكبرى والعدالة في أبهى تجلياتها؟ ألا يمكن أن تكون كل هذه المحطات الانتخابية مجرّد ذرّ للرماد في العيون، ومسكّناتٍ لا طائل منها في بحر الآلام والخيبات المتتالية؟
رابعا، لم تتّعظ المؤسّسات القائمة على الانتخابات والمنظّمة لها، وفي مقدّمها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، من التجارب الانتخابية الماضية، وبقيت تجترّ نفسها تقنيا وتنظيميا، من دون تقييم موضوعي لأدائها، ولا سيما في المراحل الانتخابية السابقة التي شابتها تجاوزات وإخلالات عديدة جعلتها محل تشكيك وتساؤل، وطرحت نقاط استفهام بشأن نزاهة الانتخابات ومصداقيتها، في ظل طغيان المال السياسي الفاسد وتعفّن المناخ الانتخابي، وجعلت البحث في جدوى احتكارها مجمل الصلاحيات الانتخابية والترتيبية مشروعا ومباحا، وأضحى الحديث عن بدائل مؤسّساتية جائزا، فتحفيز الناخب على المشاركة في الانتخابات يتم عبر رزنامة انتخابية معقولة، تراعي الجوانب النفسية والاجتماعية، من دون التركيز على الجوانب التقنية البحتة، بالإضافة إلى ضرورة ابتداع أساليب جديدة للحثّ على الانخراط في العملية الانتخابية، وإشراك أطراف فاعلة ومؤثرة في المسار الانتخابي الذي يجب أن يبنى على تشاركية فعلية لا صورية. فعلى سبيل المثال، الإرساليات القصيرة التي اجتهدت الهيئة في تكثيف إرسالها إلى جمهور الناخبين أضحت محلّ تندّر على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تؤت أكلها، كما أن تركيز آليات ناجعة للرقابة وللمساءلة تشريعيا وميدانيا تضمن عدم الإفلات من العقاب، وتكرس نزاهة الانتخابات وشفافيتها، أصبح أمرا لا مناص منه في المراجعات التي يُفترض أن تقوم بها الهيئة لضمان ديمومتها ومصداقيتها.
تدعو كل هذه الأسباب إلى التمهل وإعادة النظر في المُنجز الانتخابي وتقييمه موضوعيا، من دون شطط أو مغالاة، وعلى وجه الاعتدال والاتزان، حتى تكون للناخب، فعلا لا قولا، كلمته الفصل وإرادته العليا.

17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
نجيبة بن حسين

أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية

نجيبة بن حسين