ملفّ الهجرة بين الترغيب والترهيب
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
الهجرة أمر واقع تفرضه طبيعة الإنسان والظروف المحيطة به، ويكاد يكون التنقّل هاجساً لصيقاً بالوجود البشري، وبالكائنات الحيّة عموماً. والأسباب عديدة، لا يمكن عدّها أو حصرها، تتراوح بين غريزة البقاء في قيد الحياة، عبر تلبية الحاجيات الأساسية للإنسان من مأكل وملبس ومسكن وبحث عن مورد رزق، وبين الخوف من الاضطهاد والقمع والموت، إمّا نتيجة الحروب أو غيرها من الأزمات والآفات، وإما نتيجةً للممارسات التضييقية للأنظمة السياسية الدكتاتورية والشمولية. وبتطوّر المجتمعات الإنسانية، وبروز ظاهرة "الدولة" بوصفها كياناً مُجرّداً يتكوّن من مجموعة بشرية تعيش في إقليم جغرافي ذي حدود مضبوطة تحكمها سلطة سياسية ذات سيادة، أضحى العبور من دولة إلى أخرى يخضع لرقابة تشتدّ وتتضاءل بحسب طبيعة العلاقات بين الدول، وأصبحت السيطرة على الحدود الترابيّة والجوّية والبحريّة من أكثر رموز السيادة وعناوينها أهمّية. لذلك، نشبت العديد من النزاعات بين الدول بشأن رسم الحدود المشتركة، وضبط امتدادها، ولذلك، كلّما أحكمت دولة مراقبتها لحركات وفود الأجانب وخروجهم من ترابها، اعتبر الأمر دلالةً على ممارستها سيادتها، وحمايةً لسلامة ترابها من المخاطر التي تهدّد أمنها واقتصادها أو وحدتها وسلمها، في حين كانت المجتمعات القديمة أكثر انفتاحاً لانتفاء الحدود بمفهومها الحديث الصارم، فهي إمبراطوريات وممالك مُؤهّلة للتوسّع والتمدّد أو الانحسار بصورة مُطّردة، وبحسب منطق الحروب والغزوات والانتفاضات والتحالفات.
تراوحت سياسات الهجرة بين الترحيب وحسن الضيافة وتوفير سبل الإدماج، والتضييق والزجر والطرد وغلق الحدود
وتتعامل الدول والمجتمعات المضيفة مع هذه الظاهرة الإنسانية باعتماد سياسات وممارسات متمايزة وفق السياقات الدولية والداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبحسب الخصائص الحضارية والعقائدية والسوسيولوجية للمجتمعات، ولم يخلُ مجتمع على وجه الأرض من تدفقات المهاجرين والوافدين على مرّ تاريخه، أحدثت هذه التدفقات ثراءً وتنوعاً في تركيبة هذه المجتمعات إذا ما تمّ دمجها، لكنّها تسبّب أحياناً صراعات وأزمات داخلية، وتكون عرضة للتمييز والإقصاء والتهميش والاستغلال، ويصعب دمجها في صلب المجتمعات المضيفة، فتتحوّل أقلّياتٍ منبوذةً أو أفراداً غير مرغوب فيهم، لأنّهم لا يستجيبون إلى المعايير والشروط والمقوّمات المجتمعية المتوافق عليها في الدول المضيفة. لذلك، تراوحت سياسات الهجرة بين الترحيب وحسن الضيافة وتوفير سبل الإدماج، والتضييق والزجر والطرد وغلق الحدود، ومثّلت التأشيرةُ الآليةَ الإدارية والقانونية والأمنية، الأكثر شيوعاً لمراقبة الحدود ولمأسسة سياسات الهجرة وتجسيدها.
اتفاقيات "شنغن": الهجرة - صفر
تبنّت بعض الدول سياسات هجريّة تضييقية، تبينت هشاشتها وازدواجية معاييرها. من ذلك، سياسة الهجرة – الصفر، التي اتبعتها دول الاتحاد الأوروبي في سبعينيّات القرن الماضي لإيقاف تدفُّق المهاجرين، والاقتصار على الهجرة العائلية، التي تهدف إلى لمّ شمل عائلات المهاجرين المقيمين بصورة شرعية، لكنّها باءت بالفشل، بل أسهمت في تأجيج ظاهرة الهجرة غير النظامية، وضاعفت أعداد طالبي اللجوء، الأمر الذي دفع هذه الدول إلى إعادة النظر في توجّهاتها وخياراتها المُتعلّقة بملفّ الهجرة، وتجسّد ذلك، منذ منتصف ثمانينيّات القرن الماضي، في نهج مسلكين متوازيين. يتعلّق المسلك الأول بتشديد مراقبة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. وتجسّد هذا المنهج عبر إبرام اتفاقيات "شنغن" ما بين عامي 1985 و1990، وهي اتفاقيات مبرمة بين خمس دول من الاتحاد الأوروبي (فرنسا، وألمانيا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورغ) ترتكز على الإلغاء التدريجي للرقابة عند اجتياز الحدود الداخلية لهذه الدول، وبتشديدها عند اجتياز حدودها الخارجية، وتعزّزت مكتسبات "شنغن" بدمجها صلب معاهدة أمستردام سنة 1999 لتعمّم على جميع دول الاتحاد الأوروبي، ولتصبح مثالاً يحتذى به للتعاون المُعزّز بين عدد محدود من الدول، الذي يتحوّل إلى سياسة مندمجة يتبنّاها الاتحاد برمّته، واعتبر "مختبراً" لبناء فضاء للحرّية والأمن والعدالة، وذلك، رغم التحفّظات والانتقادات التي أثارها تركيز فضاء "شنغن" في ما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان المرتبطة بترحيل المهاجرين غير الشرعيين، واستنادها إلى مقاربات بوليسية صرفة، بالإضافة إلى تهميشها حقّ اللجوء وتحويله من ضرورة إنسانية ملحّة إلى مسألة تندرج ضمن إحكام السيطرة على الحدود وتدفُّق المهاجرين. وقد أدّى ذلك إلى الانحراف به عن بعده الإنساني ونكران الحقّ في اللجوء، كما رُسِّخ في المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان، كما شُكّك في فاعلية هذا المنجز ونجاعته، ذلك أنّ أعداد المهاجرين غير الشرعيين في ازدياد مُطّرد، كما أنّ الشروط والإجراءات التضييقيّة المفروضة على التأشيرة أدّت إلى البحث عن سبل أخرى، غير قانونية، لاجتياز الحدود، وما ترتّب عن ذلك من مخاطر وويلات جمّة، قد تصل إلى الموت غرقاً أو الاستغلال من شبكات الاتّجار بالبشر.
أضف إلى ذلك، أنّ هذه السياسات الزجرية تزامنت مع توطيد العلاقات الخارجية مع شركاء من دول من جنوب البحر الأبيض المتوسّط، تهدف إلى ترحيل مسؤولية مراقبة الحدود والهجرة غير الشرعية إليهم لتخفيف العبء عن دول الاتحاد الأوروبي المحاذية للحدود الخارجية، ولا سيما المتوسّطية منها، ولمحدودية السياسات الأوروبية المتعلّقة بمجابهة الهجرة غير الشرعية وقمعها، وترتّب عن ذلك إبرام اتفاقيات ترحيل بين الاتحاد الأوروبي ودول الجوار، أدّت إلى تحميل هذه الدول مسؤولية مراقبة حدود الاتّحاد مقابل إغراءات مادّية لا تسمن ولا تغني من جوع، وشراكات اقتصادية وتجارية غير متكافئة، أفضت إلى إثقال كاهل دول الجوار، وإنهاك اقتصاداتها عوض المساهمة في تنميتها ورقيّها، علاوة على ما تمخّض من تطبيق هذه الاتفاقيات من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وممارسات بوليسية قمعية وتمييزيّة.
هجرة انتقائية
أمّا المنهج الثاني من سياسات الهجرة داخل الاتحاد الأوروبي، فقد ارتكزت على تبنّي هجرة انتقائية تهدف إلى استقطاب الكفاءات والاستحواذ على أدمغة العالم النامي، إذ تشمل إجراءاتٍ وشروطاً مبسّطة لقبول هذه الفئة من المهاجرين، وتتضمّن حوافز وامتيازات تشجّع على العمل والاستقرار والتوطين في دول الاتحاد الأوروبي، تتمثّل أساساً في مناخ الحرّية والرفاه، الذي يسود المجتمعات المضيفة، وفي الإغراءات المُتعلّقة بالأجور المرتفعة والتسهيلات المرتبطة باستقدام عائلاتهم وإدماجهم في دول المهجر، وتضمّ هذه الفئة المهن ذات الكفاءة العالية كالأطباء والمهندسين والأساتذة الجامعيين، كما تشمل أصحاب الأعمال والمستثمِرين، وبصورة أقلّ، تمتدّ هذه السياسات إلى الهجرة الموسمية، وفق شروط مضبوطة، وفي مجالات محدّدة تستجيب لسوق الشغل الأوروبية، وتضفي عليها مرونة وديناميّة، من دون أن تلحق ضرراً بتشغيليّة المواطنين الأوروبيين.
من الضروري تبنّي مقاربة جديدة لملفّ الهجرة تحثّ على إبرام شراكات واتفاقيات عادلة ومنصفة في مجال تشغيل الكفاءات في دول الاتحاد الأوروبي
تطغى البراغماتية والنفعية على هذه "السياسات الهجرية" الانتقائية، إذ تعود بالنفع على اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي وتوفّر لها القيمة المضافة التنافسية، لكنّها تهدّد اقتصادات دول المنشأ ومقوّمات التنمية والرقي بها، ومقدراتها البشرية وكفاءاتها، وتؤدّي إلى تعميق التفاوت والهوّة في مستوى الشراكات المبرمة بين دول الاتحاد الأوروبي والدول النامية التي تجابه صعوبات اقتصادية واختلالاً في التوازنات المالية العمومية، فنزيف هجرة الأدمغة والكفاءات معضلة تدعو إلى مزيد من التفكير ومن التدبير بشأن تبعاتها الآنية والمستقبلية على الدول المصدّرة لها، التي أضحت طاردةً ومنفّرةً لعلمائها ونخبها، نظراً إلى تدنّي مستوى المقدرة الشرائية، وانخفاض نسب النمو والتنمية، وغياب مناخات الحرّية والديمقراطية أو هشاشتها، وضعف سياسات التحفيز على البحث العلمي والتجديد التكنولوجي والإبداع في مختلف أشكاله، بالإضافة إلى انخفاض مستوى الأجور والمعيشة. وقد بدأت تبرز آثار هذه السياسات الهجرية الانتقائية في دول المنشأ، التي أصبحت تعاني نقصاً في بعض التخصّصات، وتراجعَ مؤشّرات البحث العلمي، وتراجعاً في نسب النمو والتوازنات الاقتصادية المرتبطة بالاستثمار وسوق الشغل، فهي دول فقيرة تنفق آلاف الدولارات لتكوين الأطباء والمهندسين، فيُستقبَلون فيما بعد، وتستفيد من خبراتهم دول غنيّة لم تنفق دولاراً واحداً عليهم. هذه المفارقة الغريبة تغيب عن أذهان أصحاب القرار في الدول المصدّرة للأدمغة، ولا تحرّك سواكنهم، متعلّلين بما توفّره اليد العاملة الأجنبية لبلدانهم من العملة الصعبة، متناسين احتياجاتها من اليد العاملة ذات الكفاءة العالية الضرورية لتحقيق تنميةٍ حقيقية متوازنة، وخلق الثروة. ففي تونس، على سبيل المثال، غادر حوالي 40 ألف مهندس البلاد خلال السنوات الأخيرة من مجموع 90 ألفاً مسجّلين في عمادة المهندسين التونسية، وهو ما يعادل عشرين مهندساً يغادرون البلاد يومياً، مع الإشارة إلى أنّ كلفة المهندس الواحد على الدولة التونسية في حدود مائة ألف دينار، ما يمثّل أرقاماً مفزعةً تدعو إلى دقّ ناقوس الخطر، نظراً إلى تبعاتها السلبية على الاقتصاد التونسي، وعلى التنمية عموماً.
في ضرورة مقاربة جديدة
لذلك، من الضروري تبنّي مقاربة جديدة لملفّ الهجرة تحثّ على إبرام شراكات واتفاقيات عادلة ومنصفة في مجال تشغيل الكفاءات في دول الاتحاد الأوروبي، وغيرها من دول العالم المُستقطِبة، تلزم هذه الدول بالاستثمار في المجالات العلمية والبحثية لدول المنشأ، وتحسين بناها التحتية، والمساهمة الفعالة في المجهود التكويني الأكاديمي والجامعي الذي تبذله هذه الدول لتكوين الكفاءات العليا ولتأطيرها وتأهيلها، بالإضافة إلى تكثيف الاستثمارات، عموماً، فيها، والعمل على فرض حصص محدودة ومضبوطة (كوتا؛ Quota) من المهاجرين من ذوي الكفاءات العالية، تأخذ بعين الاعتبار حاجات سوق الشغل لدول المنشأ، والقيمة المضافة التنموية لهذه اليد العاملة، واتباع سياسات مشتركة في المدى البعيد لتحفيز هذه الكفاءات المهاجرة على العودة إلى بلدانها والاستثمار في أوطانها، فالسياسات الهجرية الخارجية القائمة على الرؤية الضيقة والظرفية لدول المنشأ، وعلى الانتهازية والمصلحية لدول المهجر، تؤدّي على مر السنين إلى إفقار للمجتمعات المصدّرة للكفاءات، وتصحّر علمي وتنموي لها، وتفضي، تبعاً لذلك، إلى مزيد تعميق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وسينعكس ذلك، في المديَين القريب والبعيد، على حركة المهاجرين غير الشرعيين، التي تنشط وتتعاظم كلّما استفحل الفقر، وتفاقمت البطالة، وانخفضت نسب النمو في دول المنشأ، وغابت الحرّية، وتلاشى الأمل في الرفاه.
من حقّ كلّ كائن على وجه الأرض أن يبحث عن وجوده في مكان آخر، ومن حقّه أن يغادر وطنه وأن يعود إليه متى يشاء
لذلك، يغدو من الملحّ بناء مقارباتٍ استراتيجية متكافئة وشاملة، بعيداً عن الظرفية والانتهازية، والمواقف والقرارات الارتجالية والعشوائية، والسعي إلى تركيز شراكة فعلية وتآزر وتضامن دولي يزهد عن نهب ثروات الشعوب ومقدراتها، سواء كانت بشرية أم مادّية، ويتخلّص من مخلفات الإرث الاستعماري المبني على الفوقية والاستغلال، ويرنو إلى أنسنة (Humanization) السياسات الهجرية، هذه هي السبل لفرض مقاربة جديدة لتنقّل البشر عبر الحدود داخل أطر مفتوحة، تسمح بتأسيس انفتاح بين الدول في المستويين الإنساني والحضاري، ذلك أنّه من حقّ كلّ كائن على هذه الأرض أن يتنقل من دون حواجز مجحفة، ومن حقّ كلّ كائن على وجه الأرض أن يبحث عن وجوده في مكان آخر، ومن حقّه أن يغادر وطنه وأن يعود إليه متى يشاء، وحين تنتفي الحدود والحواجز والبوابات التي تمزّق الإنسانية وتقطّع أوصالها وتشرذم أفرادها، وحين يكفّ الغرب عن عنصريّته ونظرته الدونية إلى الآخر، وعن سياسته التعسّفية والقمعية والردعية في مجال الهجرة، وحين يفتح حدوده، كما كان يفعل من قبل، حين كانت مصلحته تقتضي ذلك، وحين يكفّ عن سرقة أدمغتنا واستقطاب نخبنا واستنزاف حاضرنا ومستقبلنا، وحين تصبح حرّية التنقّل والتحرّك مضمونة، كما تنصّ عليها المواثيق والمعاهدات الدولية، وحين يصبح بإمكان كلّ فرد أن يحمل حقيبته ويسافر من دون أن يضطر إلى إبرام عقد زواج مزيّف أو إلى الاستجابة لشروط تعجيزية للحصول على تأشيرة أو ركوب قوارب الموت والهلاك، حينها، ستقترب الشعوب بعضها من بعض، وتتلاشى الفوارق، ويصبح العالم مجالاً مفتوحاً للحلم والاكتشاف، ويصبح الوطن انتماءً إنسانياً يتّسع للجميع.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية