هذا النقاش في أصيلة
كان الطخّ شديداً على أنظمة الغرب الديمقراطية في مشاركات 14 وزيراً ودبلوماسياً سابقاً ومثقفاً وأكاديمياً، من مصر والمغرب والبحرين وإسبانيا وتشيلي والإمارات واليمن والعراق وليبيا وموريتانيا، في ندوةٍ من ثلاث جلساتٍ في يومين، أخذت عنوان "قيم العدالة والنظم الديمقراطية"، ضمن أشغال منتدى موسم أصيلة الثقافي الدولي في دورته (الـ45) المنعقدة حالياً. ويبدو أمرٌ كهذا مُسوّغاً، أو قابلاً للتفسير (والتبرير)، بالنظر إلى أن اختلالاً كبيراً ومكشوفاً بين سيادة نظم ديمقراطية في بلدانها، تأخُذ بشروط الديمقراطية (والليبرالية أيضاً) واستحقاقاتها، وغياب تحقيقها قيم العدالة وممارستها (على الصعيد الكوني خصوصاً). ولأن حرب الإبادة الجارية على غزّة مستمرّة، فقد كانت المثال الأكثر حضوراً وتكراراً في كلمات المشاركين، شاهداً مُعايَناً على هذا الحال. وإذ تباينت سويّات المقتربات والمداخل النظرية و"المفهوماتية" (إن صحّت المفردة)، في مشاركات "المتدخّلين" (بتعبيرٍ مغربي ذائع)، وفي تعقيباتٍ عليها وأسئلةٍ ناقشتْها، وإذ اتسم بالتسرّع والسطحية والإطلاقية بعضُ ما سمعنا، نحن الحضور في مكتبة الأمير بندر بن سلطان ومركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في المدينة الرائقة في شمال المغرب، فإن هذين الأمرين لا ينفيان أن أهمية ما قيل في الندوة ماثلةٌ في أن الذين قالوه هم من نخب عالية المستوى في التعليم والخبرة والتجربة، وأقاموا في الغرب طويلاً، ودرسوا فيه، وعملوا في مؤسّسات دولية، أي إن احتكاكهم بالغرب كبير، فضلاً عن أن غالبيّتهم محافظون سياسياً، وليسوا من أصحاب المنظورات الثورية (واليسارية)، فهم أبناء أجهزةٍ حكوميةٍ في بلدانهم التي تقيم مع الولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبي علاقات تحالفٍ (أو تبعيةٍ ربما). وبذلك، يمكن القول إنهم أهل خبرة في التعامل مع الدول التي تأخذ بالديمقراطية نظاماً سياسياً لها، لكنها تمارس ازدواجية في معايير التعامل مع قضايا العالم، خصوصاً قضايا العرب، ولا تكترثُ بقيمة العدالة واحدةً من ركائز المنظومة الأخلاقية الإنسانية في الممارسة الديمقراطية المفترضة.
ولأن المتحدّثين، وبينهم وزراء وسفراء عرب سابقون، كانوا "ينتدون" ولم يكونوا يحاضرون، شرّق بعض كلامهم وغرّب، من دون كثير اعتدادٍ بأرضيّاتٍ أكاديميةٍ وتحليليةٍ واجبة في مناقشة أسئلة جوهرية تتعلق بالديمقراطية وقيم العدالة الكونية، وبالدبلوماسية الدولية ومحدّداتها، غير أن هذا لا يُلغي وجوب الإشادة بمشاركات مختصّين مغاربة (تاج الدين الحسيني ومحمد المعزوز ووزير العدل المغربي الحالي، عبد اللطيف وهبي) ذهبت إلى ما هو عميقٌ وأكثر حفراً في المسألة المطروحة، وهي عويصة، استسهلتْها مشاركاتٌ في الندوة بخفّةٍ، عندما لم تحترس، وهي تقولُ ما تقول عن قيم الحق والعدالة والقانون الدولي، من الشطط في لعن هذه القيم نفسها، لا لشيءٍ إلا لأن الغرب "يتشدّق" بها (تخيّل استخدام هذه المفردة من معجم فقير!). على أن التأشير إلى هذا التوصيف، الجُزئي على أي حال، لا ينفي قيمةً ثمينةً لمشاركاتٍ أخرى، لم تُشغل نفسها بالذي جرى تركيزٌ كثيرٌ عليه، وموجزه أن الديمقراطية الليبرالية (مع فروقٍ بين المفهومين طبعاً) ليست النظام الأمثل لتحقيق العدالة. وحاولت هذه المشاركات التوازن، وشدّدت على وجوب حماية قيمة العدالة في القوانين والدساتير وتأمين سلوك سياسي وإجرائي يزاولها. كما لا ينفي عدم إغفال إتيانٍ طفيفٍ في بعض المشاركات على مسؤولية العرب أنفسهم عن حالهم المستضعف، ووجوب خروجهم من حالة الندب والشكوى التي يقيمون فيها، سيّما أن ليس هناك أي دولة عربية ديمقراطية (على ما قال عبد الخالق عبد الله).
سخر عمرو موسى من أُزعومة أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وقال ميغيل أنخيل موراتينوس إنه لا ديمقراطية مع ارتكاب الحربيْن الحادثتيْن في غزّة ولبنان. وجاءت سميرة رجب على ضعف المؤسّسات الدولية أمام غطرسة القوى العظمى. وكان مهماً ما طاف عليه عبد الحسين شعبان من التباساتٍ قائمةٍ في مقاربة الجدلية الحاضرة في قضية نُقصان العدالة في ممارسات أنظمة ديمقراطية ذات نزوع إلى الهيمنة... وأياً كانت وجهات النظر مما قيل وسمعناه، يبقى دالّاً، بشكلٍ جوهري، على سيادة نمطٍ خاص ومتعيّن في خطاب ثقافي عربي عريض، عنوانُه لعن الغرب، بالمطلق، وأرطالٌ من الكفر بقيمِه، وكثيرٌ من الحَوَل في النظر إلى عيوبنا العربية الفادحة.