عندما تأكل الحربُ مفرداتِنا
ما كان ضرّ أصحابُ الجلالة والفخامة والسموّ والسيادة والسعادة، من الدول العربية والإسلامية، لو لم يجتمعوا، الأسبوع الماضي في مؤتمر قمّتهم المشتركة في الرياض، ليبَثّ بعضُهم كلماتٍ تباينت مناسيب السخط والأسف فيها، جرّاء استمرار العدوانَين الإسرائيليين في غزّة ولبنان، ولينتهوا إلى بيانٍ انكتبَ قبل قعودهم في كراسي تمثيلهم بلدانَهم، ثم لم يكترث به أحد؟ ما الذي اضطرّهم إلى جمْعهم هذا، ليُطالبوا فيه المجتمع الدولي بتحمّل مسؤولياته، على ما كرّر بعضٌ غير قليلٍ منهم في ما أفضوا به قدّام مشاهديهم ومستمعيهم؟ عشيّة هذا المنتدى وغداته، قضى فلسطينيون، في شمال قطاع غزّة ووسطه، لا نحفظ لهم عدداً. لم يستجب المجتمع الدولي لما طولب به في قاعة مركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات في العاصمة السعودية، ولم ترتعش حكومة دولة الاحتلال من التنديد الذي رُمي به هجومُها على الأمم المتحدة وأمينها العام، ولا التفتَت إلى "التحذير"، الذي جاء عليه بيان القمّة، من خطورة التصعيد في المنطقة وتداعياته. ولا نحسبُها انشغلت بتأكيد البيان العمل على إنهاء تداعيات العدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزّة ولبنان. ... والإيجاز هنا أنه لم يكن ثمّة مدعاة لهذا الملتقى، وإنْ لا يُحرِج من تداعوا إليه، سيما من العرب، أن وتيرة استهداف المدارس ومراكز الإيواء والمنازل المأهولة في شمال قطاع غزّة ووسطه على حالها، بل اشتدّ الإجرام حدّةً في هذا اللون من الاعتداءات، فهذه مدرسة لوكالة غوث اللاجئين ومنزل في بيت لاهيا يُقصفان، الليلة قبل الماضية، فيستشهد نحو 60 فلسطينيّاً ويُصاب عشراتٌ، معظمهم أطفال ونساء، فترى وزارة الخارجية في بلد عربي هذه الفعلة مدعاةً لإصدار بيان إدانة واستنكار، يأتي على غياب "ردٍّ دوليٍّ فاعل وحازم يُلجم العدوانية الإسرائيلية".
نفيقُ كل صباح على أنباء مجازر يرتكبها المعتدون الإسرائيلون على الغزّيين المحاصرين، الذين يُحارَبون أيضاً بالتجويع الشنيع، فتلقانا أمام السؤال المُلغز عن الذي يريده نتنياهو وطاقمه في حكومة اليمين الفاشية من هذا التمويت اليومي، العبثي، وأمام يأسٍ ثقيلٍ يُطبق على أرواحنا وأبداننا ونفوسنا، مع شعورٍ متوطّنٍ بالإحباط والعجز، أمام انعدام أي قيمةٍ وجدوى لأي كتابةٍ أو كلامٍ أو قولٍ في السياسة، وقتل المستضعفين المتروكين هناك، في جباليا ومخيّمها وفي بيت لاهيا والمغازي والبريج والنصيرات وسائر جغرافيا القطاع المُستباح، المنذور لحيرة حكومة نتنياهو بشأن يومٍ تالٍ فيه، ما ينفكّ يبتعد ويبتعد، بعد أن كان بعضٌ، وصاحب هذه الكلمات منهم، قد ظنّ، في مطالع يونيو/ حزيران الماضي، أن الحرب هناك ستبدأ عبورَها إلى خواتيمها، بناءً على إعلان جو بايدن أنها يجب أن تتوقّف، وقد أضعفت "حماس". وكان التقديرُ، في الأثناء، أنه لم يعُد جائزاً لنتنياهو المضي في حربٍ لا أفق سياسيّاً لها، غير أن الذي تأكّد، تالياً، أن ذلك الظنّ وهمُ سُذّج، يفترضون أن في وسع رئيس أميركي متواطئٍ ومهزوز، وإدارةٍ منحازةٍ وكاذبةٍ، أن يفرضا نهاية لهذه الحرب التي أقامت جبالاً من اليأس في أرواحنا.
إذن، ماذا نصنع، نحن أصحاب الرأي، وقد استهلكنا من معاجم اللغة مفردات التأسّي والحنق، واستنفدْنا رمي القمم العربية الإسلامية المشتركة بما تستحقُّه من استخفاف، وكتبْنا كل ما يجب (أو بعضَه؟) أن ينكتب، عن مواتٍ عربيٍّ يُفسح للغزاة الفاشيين أن يعملوا ما يشاءون في غزّة، ثم في لبنان، وها هم يتهيأون لجولةٍ أخرى من سرقة المتبقّي من فلسطين في الضفة الغربية، مسلّحين بالهوان العربي إيّاه، ومعزّزين بإسناد دونالد ترامب ورجاله. ... تُرى، ماذا نصنع، وقد قالت الأمم المتحدة ومؤسّساتها وأجهزتها كل شيء، مما تستحقّ عليه حزمةَ تحايا تقدير واجبة؟ ماذا نصنع وقد صدعَت محكمة العدل الدولية وشقيقتُها محكمة الجنايات الدولية بكثيرٍ مما لزم أن ينقال؟ يفترسُنا شعورٌ ممضٌّ بلا جدوى أي كلامٍ في السياسة، بعد مقادير باهظةٍ من القتل المروّع والتهديم والتعطيش والتجويع، مما لا قدرة للمجازات والاستعارات على وصفه. تأكُل الأبدانُ المسجّاة قتيلة في بيت لاهيا والنصيرات والبريج (و...)، صباح أمس والليلة قبل الماضية، كل بلاغةٍ في أي قول، فلا نعثُر على قولٍ نُشهره، ونحن في أرقٍ متعِبٍ من اكتظاظ القهر في حواشينا، إلا السؤال عمّ جعلهم، أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والسعادة، يجتمعون الأسبوع الماضي، ليدلّلوا، للمرّة الألف على الأقل، على فداحة ما عليه الأمة من بؤسٍ وخفّةِ وزنٍ مريعيْن.