هذا الغضب في إيران
يعتبر بعضهم أن الثورة الإيرانية من الثورات القليلة التي حققت مفهوم الثورة المتعارف علیه في العلوم السیاسیة: "تغییر شامل وأساسي لنظام بال، یشمل كل المجالات السیاسیة والاجتماعیة".
تختلف إيران قبل ثورة 1979 تماما عما بعدها. كان الاعتقاد السائد لدى قائد الثورة، الخميني، أن إيران الجديدة لابد أن تستعيد مقوماتها الثقافية والحضارية، وتبتعد عن تقليد الغرب وتخرج من تحت عباءته. ومن ذلك أن رضا شاه أصدر، في يناير/ كانون الثاني عام 1936، القانون الذي يلزم الإيرانيات بخلع حجابهن، معتبرا أنه من مظاهر التخلف، ويمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة. وأثار ردود فعل دينية وشعبية غاضبة، ولم يلغَ إلا في عهد ابنه الشاه محمد رضا بهلوي في 1944، ولكن الحجاب ظلّ رمزا للتخلّف والرجعية طوال حكم الشاه الذي كان يعدّ نفسه حداثيا، وكان منحازا بشدّة لمظاهر الثقافة الغربية. لم يكن الحجاب مجرّد فرض ديني، بالنسبة لقادة الجمهورية الإيرانية الإسلامية الوليدة، بل كان رمزا للتحرّر من التبعية الغربية وعودة إلى الجذور. ولذا أصدر الخميني قانونا يُلزم النساء بارتداء الحجاب الشرعي في الأماكن العامة. واستغرق فرض الحجاب سنوات، وجاء على مرحلتين:1981 و1983. اقتصر نطاقه، في الأولى، على المؤسّسات والدوائر الحكومية، وفي الثانية أصبح إلزاميا لجميع النساء، وجرى إقرارعقوبات متدرّجة على عدم ارتداء الحجاب.
لم يكن الحجاب مجرّد فرض ديني، بالنسبة لقادة الجمهورية الإيرانية الإسلامية الوليدة، بل كان رمزا للتحرّر من التبعية الغربية وعودة إلى الجذور
وهناك عدة أشكال للحجاب فى إيران، الشرعي وهو الشادور، 30-40% من الإيرانيات يلتزمن به، وما بين 60-70% من الإيرانيات يرتدين الحجاب العرفي الذي ينقسم إلى مقبول وسيئ غير مقبول. المقبول يظهر جزءا من شعر الرأس والملابس تكون غير فضفاضة. أما السيئ فتكشف فيه المرأة جزءا كبيرا من شعرها، وتضع مساحيق تجميل لافتة للنظر، وترتدي ملابس ضيقة أوقصيرة. وهناك إيرانيات يعارضن كل أنواع الحجاب، ويخلعنه في الشارع تحدّيا للسياسات الرسمية، ويضعن صورهن وهو سافرات على مواقع التواصل، وهو ما جعل "شرطة الأخلاق" تتشدّد في الرقابة على ارتداء الحجاب الشرعي، وتعاقب المخالِفات، وكانت منهن مهسا أميني، التي احتجزتها هذه الشرطة بسبب "عدم التزامها قواعد اللباس الإسلامي". وجرى اتهام الشرطة بأنها السبب في وفاة أميني، نتيجة تعرّضها للضرب، لكن تقرير هيئة الطب الشرعي الإيرانية ذكر أن الوفاة "لم تكن بسبب ضربات على الرأس أو الأعضاء الحيوية للجسد، بل ترتبط بتداعيات خضوعها لعملية جراحية لإزالة ورم في الدماغ في سن الثامنة". لم يجد هذا البيان صدى في الشارع الإيراني، ولم يوقف الاحتجاجات التى يزيدها عنف السلطات الأمنية اتساعا، ولم يعد الأمر قاصرا على تظاهرات النساء الإيرانيات اللواتي يرفضن الحجاب الإجباري، ويطالبن بالحرية فيما يخص ملابسهن، لكنه أصبح تمرّدا على سياسات النظام الحاكم وقبضته الأمنية. وانضم إلى الاحتجاجات تلاميذ مدارس وفئات جديدة من مناطق مختلفة، وتحوّل المشهد رفضا عاما لواقع يعاني فيه المواطن الإيرانى البسيط من مختلف أنواع الضغوط، ويكاد القدر أن ينفجر من طول الغليان المكبوت.
وقد شهدت إيران، في السنوات الخمس الأخيرة، موجات من الاحتجاجات تتكرّر تقريبا كل عام، لأسباب مختلفة أهمها غلاء المعيشة وتضاعف أسعار الوقود وانقطاع الكهرباء وشحّ المياه وزيادة نسب الفقر. وقبل سنوات، صاغ المرشد الأعلى، علي خامنئي، مفهوم "اقتصاد المقاومة" فى محاولةٍ لتقليل ضغط العقوبات على اقتصاد بلاده، بالتقليل من الاعتماد على النفط والغرب مع إعطاء أهمية كبيرة للتكنولوجيا المتطوّرة والتصنيع. ويركّز هذا المفهوم على مؤشّرات الأداء الاقتصادي بشكل عام، وليس على الظروف المعيشية للناس.
وفاة مهسا أميني ليست سوى القشّة التى قصمت ظهر الإيرانيين والجزء الظاهر من جبل الثلج
ويجعل اقتصاد المقاومة إيران دولة قادرة على الصمود أمام العقوبات الأميركية، ولكنه لا يخفف المعاناة عن المواطن البسيط بسبب انهيار قيمة العملة والتضخّم وارتفاع الأسعار وعدم إيجاد حلول للمشكلات المعيشية، وهو ما أدّى، في النهاية، إلى حالة من التذمر والغضب المكبوت الذي وجد في الاحتجاج على وفاة مهسا أميني متنفسا.
في ظل الظروف الصعبة والمتشابكة داخليا وإقليميا وعالميا، تنسى الأنظمة التى جاءت إلى السلطة على أثر ثورة شعبية، ومنها النظام الإيرانى، دورها ومسؤولياتها تجاه الشعب الذي قام بالثورة وضحّى من أجل التغيير. لا أحد ينكر أن إيران بعد الثورة أقوى وأفضل على جميع الأصعدة مما كانت عليه في عهد الشاه، ولكن كان منتظرا أن لا يتم تجاهل المعارضة، فهم جزء من أي نظام سياسي مستقر، وقد سبق أن انتقد الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني فرض ارتداء الحجاب، وطالب الشرطة بأن تكون متساهلة في هذا الشأن.
الحزم فى التعامل مع الاحتجاجات ومظاهر الفوضى يجب أن يواكبه تفهم لأسباب الاحتجاج الحقيقية، وهي غالبا ما تكون تراكمية، ولابد من دراستها والتعامل معها بحكمة ومحاولة التخفيف من حدتها، فوفاة مهسا أميني ليست سوى القشّة التى قصمت ظهر الإيرانيين والجزء الظاهر من جبل الثلج.