حين تقتل اللقطة خصوصيات الناس
انشغل الرأي العام المصري، أخيرا، بمقطع فيديو متداول على "السوشيال ميديا" لشاب وفتاة يتبادلان القبلات فوق أحد الجسور في القاهرة. نُشر الفيديو يوم السبت، 31 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، رغم أن الفعل نفسه جرى في إبريل/ نيسان، كما أقر الشاب والفتاة اللذان حدّدت هويتهما الشرطة المصرية، وجرى عرضهما على النيابة ومواجهتهما بتهمة ارتكاب فعلٍ مخلٍّ بالآداب وخادش للحياء، ثم أُخلي سبيلهما بعد تسديدهما ضمانا ماليا، كما أعلنت النيابة.
لم تحدّد الجهات الأمنية المختصة المسؤول عن تصوير هذا الفيديو ونشره. وصاحبه يتحمّل الجرم الأكبر فى هذه الواقعة، فإن كان الشاب والفتاة قد قاما بفعل خادش للحياء، فالمصوّر ساهم في نشره من دون موافقة منهما، أو احترام لخصوصيتهما، وأعطى لنفسه الحقّ في أن يقوم بدور الشرطة والقضاء في آن، ضبطهما متلبسين بالواقعة، حين صوّرهما وحكم عليهما بالفضيحة حين نشر الفيديو.
ليست المرّة الأولى التي ينشغل فيها الرأي العام المصري بفيديو صادم للعرف والعادات جرى تصويره خلسة، ففي يناير/ كانون الثاني من عام 2019، تم تداول فيديو عُرف باسم "طفل البلكونة"، وتظهر فيه أمٌّ من بيئة شعبية بسيطة، وهي تحاول إدخال ابنها إلى شرفة منزلها من إحدى نوافذ شقّة مجاورة بعد نسيان الطفل المفتاح في الداخل، وكان الطفل، كما ظهر في الفيديو، مرعوبا، لأنه كان معرّضا للسقوط. ولقد اعتبر كل من شاهد الفيديو الأم مجرمةً فى حق ابنها، لأنها تخاطر بسلامته لسبب بسيط. الجار المتلصّص الذي شاهد الواقعة، وسجّلها بكاميرا هاتفه المحمول، من دون أن يحاول أن يردع الأم أو يساعد الطفل، لكنه قرّر أن يسجل الواقعة، حتى لو انتهت بسقوط الابن وموته. الأهم عنده اللقطة التي سيجني منها آلاف الإعجابات والمشاركات على "السوشيال ميديا". وهناك أيضا فيديو مدرسة المنصورة التي كانت ترقص في أثناء رحلة مدرسية نيلية مع زملاء لها من المدرّسين. نشر الفيديو مطلع العام الماضي. وبعد انتشاره، جرى تحويلها إلى التحقيق من وزارة التربية والتعليم، وتسبب لها الأمر في مشكلاتٍ مهنيةٍ وأسريةٍ، وعلقت بأسى على الأمر قائلة: "والله ما أعرف أني بتصوّر، ليه بيشهّروا بي وبسمعتي وبيدمّروا مستقبلي ومستقبل أطفالي الثلاثة"!
على المجتمع أن يضع معايير واضحة يفصل فيها بين فضيلة المراقبة والمراجعة لأفراده ورذيلة التعدّي على حياتهم الخاصة
... يجد كثيرون مبرّرا لمصوري هذه الفيديوهات، على اعتبار أنه يمثل المجتمع الذي يراقب أفراده ويردع سلوكهم السلبي بفضحهم، الأمر يبدو، للوهلة الأولى، ظاهرة إيجابية، لكنه في الحقيقة يثير إشكالية اجتماعية وأخلاقية كبيرة، فالتلصّص على حياة الناس الخاصة يفتح أبواب الجحيم، وأضراره أكبر بكثير من فوائده. وإذا أعطى المجتمع شرعية للمتلصّصين لن يكون لهم رادع، وسيعيش المجتمع في حالة عدم أمان ومخاوف من سيف الفضائح، وهو أمر يخالف القيم الأخلاقية وفضيلة الستر المقدّسة فى مجتمعاتنا العربية. ويجب أن يكون لدى المجتمع الوعي الكافي لوضع معايير للرصد والرقابة والنشر. على سبيل المثال، فضح انتهاكات الشرطة مع المواطنين شيء إيجابي، لأن الشرطي يجري رصده في أثناء تأديته وظيفته، وليس في أثناء حياته الخاصة، وهو موظفٌ عام، يقتضي عمله الالتزام بمعايير أداء وضبط نفس، وكذلك فضح المتحرّش، لأنه شخصٌ لا يحترم خصوصية النساء وكرامتها. ومن الواجب فضحه، حتى يتوقّف عن أذاه المتعمد. على المجتمع أن يضع معايير واضحة يفصل فيها بين فضيلة المراقبة والمراجعة لأفراده ورذيلة التعدّي على حياتهم الخاصة.
يحدُث تشوّه الهوية بسرعة مذهلة، نتيجة التوسّع المفرط في استخدام الوقت واستهلاكه على منصّات التواصل الاجتماعي
نيل الإعجاب والشهرة والربح المادي الذى يعود على ناشري الفيديوهات طبقا لسياسة "يوتيوب" و"إنستغرام" و"تيك توك" وغيرها من منصّات "السوشيال ميديا" جعلت البحث عن فضيحةٍ هدفا في حدّ ذاته، بغضّ النظر عن التوابع والنتائج السلبية لنشر مثل هذه الفيديوهات التي تتحوّل إلى سهامٍ مسمومةٍ تصيب المجتمع في مقتل. توسّعت هذه الظاهرة لتصبح أكبر من مجرّد حالة نميمةٍ عن حياة النجوم والمشاهير، لكنها صارت منهجاً يستخدم مع عامة الناس، وخصوصا البسطاء.
لا تتوافق السرعة المذهلة التي تنمو بها منصّات "السوشيال ميديا" مع نمو الوعي والضمير الأخلاقي عند مستخدميها، مناخ اللامبالاة وعدم المساءلة المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي لا يبشر بخير لأي مجتمع، بل يُفقده مع الوقت معاييره الأخلاقية وهويته الوطنية التي تأصلت على مدار الزمن. يحدُث تشوّه الهوية بسرعة مذهلة، نتيجة التوسع المفرط في استخدام الوقت واستهلاكه على منصّات التواصل الاجتماعي، وهو ما يفرض على الحكومات، خصوصا في عالمنا العربي، الانتباه إلى الأمر، ودراسة التأثيرات الاجتماعية لـ"السوشيال ميديا" لوضع ضوابط تتوافق مع العصر، وفي الوقت نفسه، تحافظ على القيم الأخلاقية والعادات والتقاليد. ولنا في تجربة الصين، وحذّر السلطات هناك من منصّات التواصل الاجتماعي الأميركية، خوفا على المعايير القيمية والأخلاقية والاجتماعية الصينية، مثال يمكن التعلّم منه.