هذا التدافع بين القوة والعدالة في السياسة الدولية
تحلّ بعد أيام الذكرى السنوية الخامسة والسبعون لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في لحظةٍ تسود فيها مشاعر إحباط عميق جرّاء المواقف المُخزية للمجتمع الدولي في التعامل مع الكارثة الإنسانية البشعة التي يعاني منها أهالي فلسطين. في هذا السياق، تخضع منظومة حقوق الإنسان وآلياتها المتاحة لانتقادات حادّة، وتشكيك في جدّية هذه الآليات ونزاهتها، إلا أنه، وبنظرة واقعية، تأخذ في اعتبارها حقائق تاريخ السياسة الدولية وطبيعتها، والترتيبات المؤسّسية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلاقات القوة دولياً وإقليمياً، نجد أن فشل المجتمع الدولي في الاستجابة لحماية المدنيين على المدى القصير، بعد اندلاع هذه الأزمات، منهجي ومتكرّر، خصوصا عندما تكون الدول الكبرى طرفاً مباشراً أو غير مباشر في هذه الأزمات. وقد شهدت المنطقة العربية نفسها على مدار العقدين الأخيرين موجات متعاقبة من الأعمال الوحشية في حقّ المدنيين، بداية من المآسي التي شهدها إقليم دارفور في السودان سنوات ما قبل الربيع العربي في ظل صمت عربي، ثم المجازر التي ارتُكبت بأياد عربية وأجنبية ضد المدنيين، والتهجير القسري واسع النطاق في سورية وليبيا واليمن.
اتجاه المجتمع الدولي في بعض السياقات إلى آليات العدالة الجنائية الدولية، أو العقوبات، أو حظر تصدير الأسلحة، أو فرض عزلة دولية ضد مرتكبي هذه الجرائم، مثل نظام بشار الأسد، أو نظام عمر البشير السابق في السودان، لم يغير واقع الفشل الدولي وتقاعس المؤسّسات الدولية عن توفير حماية للمدنيين، واستمرار ارتكاب الجرائم من دون توقف. ورغم أن ما يجري من ارتكابه من جرائم في قطاع غزّة تكرّر بأشكال مختلفة في تجارب عربية ودولية عدة، لكن الطابع الاستثنائي لهذا العدوان يتمثل في صلابة التعاطف الذي توفّره دول غربية كثيرة، خصوصا الولايات المتحدة، مع عقود طويلة من جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
وعودة إلى الإعلان العالمي الذي يحتفل العالم بذكرى صدوره في شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، نصّ هذا الإعلان على قيم إنسانية نبيلة، لكنها تظل عرجاء في ظل الصراع المستمر في السياسة الدولية بين منطقي القوة والعدالة. ترك هذا الصراع بصماته على كل مراحل تطوير منظومة حقوق الإنسان الدولية منذ الأربعينيات من القرن العشرين. لقد أقصت علاقات القوة المصاحبة لسياق إعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان رؤى بديلة كانت تسعى إلى أن يكون الإعلان تشاركياً وممثلاً لمطالب الشعوب المستعمرة والفئات المستبعدة وتطلعاتها.
لاقى إدماج الحقّ في تقرير المصير في وثائق حقوق الإنسان الدولية مقاومة ضارية في الأربعينيات والخمسينيات
في كتابه الصادر عام 2018 عن دار نشر ستانفورد، نشر الأنثروبولوجي الأميركي مارك جودال لأول مرة وثائق الاستبيان الذي أشرفت عليه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) عام 1947 لاستطلاع تصوّرات فكرية وفلسفية وقانونية من مختلف مناطق العالم حول مضمون حقوق الإنسان التي يرون أهمية تجسيدها في إعلان عالمي. يكشف الكتاب عن تأثير علاقات القوة الدولية في تهميش تصوّرات ورؤى كثيرة وقت إعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان من شأنها تغيير المسار الذي انتهجته الأمم المتحدة في صياغة النظام الدولي لحقوق الإنسان. ومن القضايا التي طرحت في هذا الاستبيان، ولاقت رفضاً من الدول الغربية، ضرورة انتباه الإعلان العالمي إلى حقوق السكان الأصليين، وحماية حقوقهم السياسية والثقافية والاقتصادية، بما فيها حقهم في الملكية. سيتطلّب إقرار حقوق طائفة الشعوب الأصلية، والذي يصل عدد أفرادها إلى ما يزيد عن 476 مليون فرد يعيشون في 90 بلدا، نضالا طويلا لممثلي هذه الجماعات في دولهم، وفي الساحات الدولية حتى يتم الاعتراف الدولي بهم رسميا مع تبنّي إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية في سبتمبر/ أيلول 2007.
وفي محاولة لتسليط الضوء على إنكار حقوق الإنسان للأقليات من المواطنين من ذوى الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة وقت إعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كتب ناشط الحقوق المدنية من الأصول الأفريقية، ويليام ديبويس، في عريضة إلي للأمم المتحدة: "كان تأثير نظام الطبقات العنصرية على أميركا البيضاء كارثيًا. فقد أدّى مرارًا وتكرارًا إلى دفع أعظم محاولة حديثة للحكم الديمقراطي إلى إنكار وتزييف مثلها السياسية والخيرية، أمة أعلنت بجرأة أن جميع الرجال خلقوا متساوين شرعت في بناء اقتصادها على العبودية، وكل مقطع في كلماتها السياسية الرفيعة والنبيلة يتناقض مع معاملة الأميركي الأسود على مدى 328 عامًا". وقد تجاهلت الدول الغربية في الأمم المتحدة مطالب هذه العريضة، وقاومت وقتها فكرة الاعتراف بحقّ الشعوب والأفراد في التظلم لكيان عابر للحدود ضد الدول الوطنية. وفي مرحلة لاحقة، ستنجح حركة مناهضة التمييز العنصري لإقرار اتفاقية دولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عام 1965 في وقت ذروة نشاط حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.
فشل دولي وتقاعس المؤسّسات الدولية عن توفير حماية للمدنيين، واستمرار ارتكاب الجرائم من دون توقف
وقد لاقى إدماج الحقّ في تقرير المصير في وثائق حقوق الإنسان الدولية مقاومة ضارية في عقدي الأربعينيات والخمسينيات في وقتٍ كانت تتمتع فيه الدول الغربية الكبرى بنفوذ استعماري واسع. لم يعترف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالحقّ في تقرير المصير، وكان الاتجاه وقتها طبقا للمحامي الكندي الشهير جون همفري تفسير الإشارة إلى تقرير المصير في ميثاق الأمم المتحدة باعتباره ينطبق فقط على الدول المعترف بها بالفعل في المجتمع الدولي، وليس حقّا تطالب به الشعوب الخاضعة للاستعمار.
وتكشف الباحثة الأميركية إيما ماكينون، في دراسة حديثة عن تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كيف أن استبعاد الحق في تقرير المصير من الإعلان استند إلى رؤية فلسفية ذات طابع استعلائي استعماري، تنظر إلى الشعوب المستعمرة باعتبارها شعوبا همجية لم تصل بعد إلى تحضّر الدول الغربية ومدنيتها، وغير قادرة بعد على حكم نفسها. ومن المفارقات أن أحد المدافعين عن هذه الرؤية كان القاضي والديبلوماسي الفرنسي، رينيه كاسان، والذي اتخذ موقفاً غاية في التناقض بين كونه من الأيقونات الذين شاركوا في صياغة الإعلان العالمي وموقفه المبرّر للاستعمار، ورفضه تبني الإعلان العالمي للحق في تقرير المصير. كان كاسان من الداعمين سياسات الاستعمار الفرنسي في الجزائر خلال عمله في منصب نائب رئيس مجلس الدولة الفرنسي. وعندما نجحت بعض الدول في الإشارة إلى حقّ جميع الشعوب في كل الأقاليم الخاضعة للاستعمار للتمتّع بالحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، استخدم هذا المنطق في تبرير وجود الاستعمار باعتبار أن من بين أهدافه تعليم هذه الشعوب ممارسة الحقوق قبل منحها الاستقلال والاعتراف بحقّها في تقرير المصير.
يتجسّد هذا المشهد اليوم في مواقف بعض الفلاسفة والمثقفين الغربيين والحكومات الغربية في دفاعهم عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها باعتبارها تمثل امتدادا للغرب، وكونها مُحاطة من منظورهم الاستعلائي بمجتمعاتٍ همجيةٍ معادية لها، مع تجاهل هذه الأصوات الواقع الاستعماري والعنصري الذي يخضع فيه الشعب الفلسطيني عقودا تمتد أكثر من عمر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ذاته.
على الرغم من أن الواقع الدولي، في ظل الترتيبات المؤسّسية المختلة هيكلياً منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يظلّ محكوماً بالأساس بمصالح الدولة الوطنية، فإن هذه الترتيبات قد أوجدت، في الوقت ذاته، تدافعا مستمرّا بين هيمنة القوة والمصالح الضيقة في العلاقات الدولية وتطلعات الشعوب ونضالاتها لسيادة العدالة والقيم الإنسانية العالمية وحكم القانون. يفسّر هذا الصراع التناقضات التي تعد لصيقة ببنية النظام العالمي، والتي تتمثّل في تكرار الكوارث الإنسانية والمعاناة البشرية من جهة، ومحاولات التعبئة والضغط لمواجهة هذه الكوارث من جهة أخرى، والتي قد تنجح أحياناً في إحداث تغييراتٍ في السياسات الدولية، وقد تفشل في أحيان أخرى. والمحصّلة أن البشرية بكل تأكيد ما زالت بعيدة عن التبنّي الفعلي لعالمية تشاركية غير استعلائية لحقوق الإنسان، يتم إنفاذها لصالح المستضعفين والمقهورين في هذا العالم.