هاريس وترامب... تنافس الأسوأ والأسوأ
كانت المُغايَرة جليّةً لا تخطئها عين بين المناظرة الرئاسية التي جمعت (الثلاثاء الماضي) نائبة الرئيس الأميركي، المُرشَّحة الديمقراطية كامالا هاريس، والرئيس السابق، المُرشَّح الجمهوري دونالد ترامب، من جهة، وتلك التي جرت بين الأخير والرئيس الحالي، المُرشَّح الديمقراطي السابق جو بايدن (يونيو/ حزيران الماضي)، من جهة أخرى. في مناظرة يونيو كان ترامب (78 عاماً)، المُرشَّح الأكثر حيويةً ونشاطاً، في حين كان بايدن (81 عاماً)، مشتَّت الذهن واهن الجسد، وهو ما قاد إلى تنحّيه عن الترشُّح بعد أسابيع من الضغوط الديمقراطية الشديدة عليه. على العكس من ذلك، بدت هاريس (59 عاماً)، في مناظرةٍ الثلاثاء، متوقِّدةً تتطلّع إلى المستقبل، أمّا ترامب فبدا عجوزاً يعيش في الماضي بين أسوار غضبه ونقمته على "مؤامرةِ" ما يصفها بـ"الدولة العميقة"، التي يزعم أنّها زوَّرت الانتخابات الرئاسية عام 2020 لإسقاطه لصالح بايدن. ومع أنّ جُلَّ استطلاعات الرأي الأوّلية، وتقديرات الخبراء والمتخصّصين تُقرِّر أنّ هاريس فازت بالمناظرة الرئاسية بشكل لا جدال فيه، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ سباق الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل قد حُسِمَ لمصلحتها.
تُظهِر الخبرةُ السياسيةُ الأميركيةُ أنّ المُرشَّحين الذين يفوزون في المناظرات الرئاسية لا يفوزون دائماً بشكل تلقائي في الانتخابات العامّة. ترامب نفسه يشهد على ذلك، إذ إنّه خسر مناظراته الثلاث عام 2016 مع المُرشَّحة الديمقراطية حينئذ هيلاري كلينتون، ومع ذلك، فاز بالرئاسة. الأمر ذاته حصل من قبل مع الرئيس السابق جورج بوش (الابن)، الذي خسر مناظراته الثلاث عام 2004 أمام المُرشَّح الديمقراطي جون كيري، ومع ذلك أعيد انتخابه رئيساً لفترة ثانية. ومن ثمّ، لا يمكن الجزم بأنّ هاريس قد ضمنت الرئاسة، ذلك أنّ استطلاعات الرأي ما زالت تُظهِر أنّ نتائجَ المنافسة بينها وبين ترامب متقاربةٌ جدّاً، وعلى الأغلب ستُحسَم في سبع ولايات ترجيحية، تفيد المُعطيات بأنّ فُرَص المُرشَّحين كليهما فيها تقع ضمن هامش الخطأ.
إذاً، يحقّ للديمقراطيين أن يتفاءلوا بأداء هاريس المُقنِع في المناظرة الرئاسية، وبنجاحها في هزّ شباك ترامب واستفزازه وتشتيت تركيزه، فضلاً عن الضعف الذي أبان عنه الأخير، واتضاح عدم تمكّنه من القضايا التي جرى النقاش حولها. كان هذا عكس ما جرى في مناظرة أواخر يونيو بين ترامب وبايدن، عندما نجح الرئيس السابق في إظهار الرئيس الحالي تائهاً، وغيرَ قادرٍ على تقديم إنجازاته الرئاسية أو تقديم نظرةٍ مستقبليةٍ تطمئن الناخبين الأميركيين، دع عنك قاعدته الانتخابية نفسها وحزبه الديمقراطي. في حين لم ينجح بايدن حينها في كشف نقاط ضعف ترامب وفضح مزاعمه. أيضاً، يحقّ للجمهوريين أنّ يكونوا قلقين من الأداء الباهت لترامب خلال المناظرة الرئاسية، ومن سقوطه مرّةً تلو أخرى في الفخاخ التي نصبتها له هاريس، وعجزه عن أن يُعرِّي كثيراً نقاط الضعف في سجلّها نائبةً للرئيس الحالي، وتركيزه بدل ذلك على مقولات غارقة في السذاجة، من مثل أنّ اللاجئين الهايتيين يأكلون الكلاب والقطط الأليفة، فضلاً عن عدم قدرته على تجاوز مرارة خسارته انتخابات عام 2020. إلّا أنّ التفاؤل الديمقراطي ينبغي أن يبقى نسبياً، إذ إنّ استطلاعات الرأي تفيد بأنّ أكثر قضيتَين أهمّية بالنسبة إلى الناخبين هما الاقتصاد وملفّ الهجرة غير الشرعية، وهما القضيتان اللتان يتقدّم فيهما ترامب على هاريس بشكل كاسح.
يحقّ للديمقراطيين أن يتفاءلوا بأداء هاريس المُقنِع في المناظرة الرئاسية، وبنجاحها في هزّ شباك ترامب
في ما يتعلّق بقضايانا، نحن العرب، وبعيداً عمّن سيفوز بالرئاسة بعد أقلّ من شهرَين، فإنّنا في الحالتين نواجه "سيناريو" سيئاً. قد تكون جريمة الإبادة الإسرائيلية، المدعومة أميركياً في قطاع غزّة، هي وحدة القياس الأكثر أهمّيةً الآن، والحقيقة أنّ المُرشَّحَين كليهما يتنافسان في السوء والانحياز لإسرائيل. لكنّ هاريس تتعامل معنا بمنطق تجريعنا السمَّ البطيء المدسوس في العسل، في حين أنّ ترامب لا يتورّع عن تهديدنا بتجريعنا إيّاه مرّة واحدة من دون عسل يُحسِّن مذاقَه أو يُقلِّل من سُمِّيته. وقس على ذلك مواقفهما من بقية القضايا التي تخصّنا وتهمّنا. بل قس على المنوال ذاته مواقفَ الإدارات الأميركية المتعاقبة على مدى العقود الماضية، منّا ومن قضايانا.
من عجيب الحال أنّ التحدّي الأبرز والأخطر للهيمنة الأميركية عالمياً لا يأتي من الخارج، إذ لا توجد قوّة دولية بعد قادرة على تحدّيها، وحال روسيا في أوكرانيا شاهد بيّن. إنّما التحدّي الأبرز لقوّتها العظمى يأتي من داخلها، ليس من شعبوية ترامب وفوضوية تيّاره فحسب، بل وكذلك من تنامي التيّار الرافض داخلياً لبلطجة السياسة الخارجية الأميركية، ولتحرّرها من القيم الإنسانية والحضارية. ومن المفارقات أنّه في حين تُعيِّر هاريس ترامب بأنّه لا يقيم وزناً للتحالفات والحلفاء الأميركيين، فإنّها على نهج رئيسها بايدن، ومن سبقه من الرؤساء الأميركيين، تريد أن تُبقِي العالم في حالة اشتعال وحروب، باسم الدفاع عن "قواعد القانون الدولي"، في حين أنّ الولايات المتّحدة هي أكثر من يخرقها. وفي النتيجة، فإنّ من يُشعِل نيراناً لا يمكن له أن يبقى إلى الأبد في معزل عن شررها.