نوستالجيا الفساد وفساد النوستالجيا
يحدُث أن قتامة الواقع ورداءته تبلغان حدًا يدفع الناس إلى الحنين لزمنٍ مضى، كانوا فيه أفضل حالًا مما هو حاصل الآن، فيما يعرف بظاهرة النوستالجيا، التي تأخذ الفرد والمجموع خارج اللحظة الراهنة استدعاءً لزمن كان أجمل في كل تفاصيله.
في الغالب، يشعر الجمهور بالحنين إلى حالةٍ مناقضةٍ بالكلية لما يحياه، غير أنه في الحالة المصرية الراهنة تتّخذ النوستالجيا طورًا غريبًا وعجيبًا، إذ يندلع الحنين إلى زمنٍ ثار عليه الجمهور ذاته وناضل من أجل تغييره.
كان هذا الماضي، مثل اللحظة الراهنة، مسكونًا بفساد واستبداد، غير أن فساده واستبداده كان من نوعية أقلّ توحشًا مما يحياه الناس الآن، لذا فإنهم باتوا يتمنّون استعادته، برموزه وشخوصه ونمط الحياة فيه، على الرغم من أنهم ثاروا من أجل إسقاطِه وإزاحته.
يتمنّى قطاعٌ من الناس الآن استعادة زمن حسني مبارك، أو ما يسمّى "زمن الفساد الجميل"، ذلك الفساد الذي كان يحكم ويسود، لكنه لا يطحن العظام ولا يسحق الروح، ويسمح بهامشٍ من الحياة يتمتّع بالحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، فتنشط حاليًا الخلايا المتبقّية من الزمن المخلوع بثورةٍ شعبيةٍ هائلةٍ لتطرح نفسها بديلًا ممكنًا، بل وحيدًا لما هو قائم.
ومع اشتعال الجدل بشأن انتخاباتٍ رئاسية قد تأتي، وقد لا تأتي، يفرض خيار زمن حسني مبارك حضورَه، ليس لأنه الأفضل بين كل الخيارات، بل لأنه الأكثر ملاءمة للواقع البائس الذي نجح في شلّ قدرة الناس على الحلم بتغيير ثوري شامل يتبنّى القيم والأفكار الأخلاقية الخاصة بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وهي القيم التي باتت تمثّل نوعًا من الرفاهية الفكرية عند قطاع واسع من الجماهير.
إذن، نجحت سنوات القمع والطغيان الغشوم في الهبوط بسقف الأحلام إلى ما دون العيش بكرامةٍ وحريةٍ كاملةٍ وعدل متحقّق، إذ صار المطلوب فقط أن يسمح بالبقاء من دون أن يصبح الفرد مهدّدًا في حياته وما يملكه، قليلًا كان أم كثيرًا، والوضع كذلك بات خبر من نوعية تبرئة الوزير السابق، يوسف بطرس غالي، المدان بأحكام قضائية باتّة عقب ثورة يناير 2011 يستحقّ الاحتفاء والاحتفال والترحيب بعودة وزير مالية زمن الفساد الجميل.
قريبًا من ذلك، تطلّ وجوه زمن مبارك الإعلامية والسياسية في ثوب المعارضين والنقاد الآن، يتكلمون بوصفهم تلك الخبرات الكبيرة التي حُرم منها الوطن الذي يتخبّط في عجزه وهوانه، وتتحدّث بوصفها النقيض أو البديل اللازم لذلك كله، فتنتحل خطابًا يبدو معارضًا، غير أنه في جوهره يتحرّك في مساحةٍ لا تختلف كثيرًا عن سياسات النظام الحالي، بيد أنها تظهر وجهًا أقلّ غلظة وتجهمًا.
وكما قلت قبل سنوات، مع عودة أحمد عزّ الرجل القوي في حزب عائلة مبارك الحاكم، وقاطرة مشروع التوريث، فإن الجمهور يحنّ إلى تلك الأجواء الأوليغارشية تحت شعار"زمن الفساد الجميل"، إذ كان الفساد أعقل وأهدأ، ومقيّدًا بحدودٍ معينة، منعًا للانفجار والانهيار، حيث كانت هناك صحافة مستقلّة، بنسبةٍ ما، تراقب وتكشف وتنشر، وتخاطب رأيًا عامًا، كان لا يزال يحتفظ بنبضٍ في عروقه، ويعرف مفردات التظاهر والاحتجاج وأدواتهما، إذ لم تكن كلفة ذلك قاتلة، وإن كانت مؤلمة وفادحة.
أمّا في ظل نظام "الأوليغارشية المعسكرة" الجائع للتسلّط والتوحّش والهيمنة، فلم يعد ثمّة ضابط للجموح، ولا صحافة يمكن أن تتكلّم، ولا رأي عام يستطيع الاحتجاج والغضب، أو حتى يجأر بالشكوى، في هذا الهامش الضئيل، المتروك عن قصدٍ من أهل سلطة مبارك.
الحاصل الآن أنه بدلًا من أن تتّجه النوستالجيا إلى زمن ومجتمع من دون فساد، كما في يوتوبيا ثورة يناير 2011 صارت الوجهة هي العودة إلى ما قبل 2011 بكلّ ما فيه من فساد، ما يُنبئ بأن الفساد عرف طريقه إلى النوستالجيا، بالقدر نفسه الذي سارت في هذه النوستالجيا صوب الفساد، الأقلّ وطأة.
تلمح مظاهر ذلك، ليس فقط عند الجموع المسحوقة، بل عند بعضٍ ممن يفترض أنهم طلائع نخب مثقفة أيضًا.