نوبل "لترجمة" الآداب
كان فوز الكوريّة الجنوبيّة هان كانغ بجائزة مان بوكر لعام 2016 عن روايتها "النباتيّة" سببًا رئيسًا في انتباه كثيرين إليها، وأنا منهم. لم يكن غريباً ألّا نعرفها. ليس من الممكن ولا من المعقول قراءةُ الجميع، بالنظر إلى تزايد كمّ المنشورات المحليّة والعالميّة وتنوّعها وتعدّد لغاتها ومدارسها وخضوعها لألوانٍ لا تُحصى من المنافسات الشرسة. من ثمّ أهميّةُ الجوائز التي تضع الكتب في قلب الحدث، وتسلّط عليها قدراً من الأضواء، خصوصاً إذا كانت الجائزة ذات مصداقيّة (أو تتقن إيهام جانب كبير من الكتّاب والقرّاء بمصداقيّتها).
لم تلفت الروايةُ انتباهي في البداية بقدر ما لفت انتباهي حصولُ الكاتبة على جائزة مان بوكر بالشراكة مع مترجمتها إلى الانكليزيّة ديبورا سميث، حيث تقاسمتا شيكّاً بقيمة 50 ألف جنيه إسترليني. كانت تلك المبادرة حركة لافتة فعلاً وغير مسبوقة بالنسبة إلى "البوكر". إنّها اعتراف بدور الترجمة في تحويل أدبٍ موغلٍ في محليّته إلى أدب مقروء في كونيّته. وهي إقرار بقدرة الترجمة على إيصال عملٍ ضيفٍ إلى لغة الاستضافة بالشكل الذي يجعل إبداعيّته تفرض نفسها على قرّائه الجدد من دون أن يفقد شيئًا من خصوصيّته.
لماذا لم تفعل جائزة نوبل الشيء نفسه؟ ... قرأتُ لهان كانغ بعد ذلك أعمالاً لها مترجمة إلى الفرنسيّة، ثمّ قرأت بعض ترجماتها إلى العربيّة (منشورات دار التنوير). وها هي تفوز بـ"نوبل للآداب" لهذا العام (2024)، فيعود إلى ذهني مباشرة السؤال إيّاه: كيف قرأ أعضاءُ الأكاديمية السويدية "محليّةَ" هذه الكاتبة؟ أيّ الترجمات أفلح في إقناعهم بأدبيّتها العابرة للمحليّات؟ وأيّ المترجمين عبر بتلك المحليّة إلى آفاق الكونيّة من دون أن يخطب ودّ ثقافات الاستضافة الترجميّة؟
كان من الجدير بجائزة في أهميّة "نوبل" أن تهتمّ بالمترجمين، خصوصاً مع أعمال "غير غربيّة" لا تقرأها اللجان مباشرة في اللغات التي كُتبت بها. هل كان أعضاء لجنة الجائزة ينتبهون إلى شعريّة هان كانغ مثَلاً، وإلى تفاصيل نثرها الشعري المكثّف الذي يواجه التروما التاريخية ويكشف "هشاشة الحياة البشرية" لولا قدرة الترجمة على العبور بالتجربة؟ هل كانوا ينفذون إلى شفافيّة اللغة لديها وإلى "أسلوبها الشعري التجريبي الذي اعتبرت بسببه مُجدّدة في مجال النثر المعاصر" لولا قدرة الترجمة على إعادة إنتاج ذلك الأسلوب وتأصيل تجريبيّته المبتكرة في لغته الجديدة؟
سؤال يهمّ أدبنا العربيّ المتحسّر على أيقوناته في مثل هذا الموعد من كلّ عام، متّهماً "الآخر" بالعمَى الأدبيّ. ألا تكون العلّة في الترجمة؟ ألا يكون أدبنا العربيّ في حاجةٍ إلى مترجمين مبدعين، يقفون من روائعنا الأدبيّة موقف بودلير من إدغار ألان بو؟ أو موقف ديبورا سميث من هان كانغ؟
أغلب الظنّ أنّ معظم روائعنا الأدبيّة "المترجمة" لم يُترجم بعد. السبب أنّهُ ضحيّة لوبياتٍ من حول مراكز ومؤسّسات تدّعي ترجمة الأدب الوطنيّ إلى لغات العالم لتتمخّض في النهاية عن: عرب يُترجمون لعرب كُتباً عربيّة تُنشَر في الأغلب الغالب عربيّاً وتُعرَض على اللا قرّاء العرب قبل أن توضع في المخازن العربيّة! هكذا نتصوّر أنّنا "ننتصر" لأدبنا! نتوهّم أنّ من الممكن تطبيق الحكمة "ما حكّ جلدك مثل ظفرك" على الترجمة وعلى الجائزة نفسها: جائزة عربيّة تعوّض "نوبل"! ولعلّنا نطبّق ذلك على الفوتبول أيضاً: بطولة "عالميّة" لا نتنافس فيها مع العالم. هكذا نضمن الفوز!
لم يُبذَل أيُّ جهدٍ حقيقيّ كي يُصبح أدبُنا بُغيَةَ المترجم والناشر في لغة الاستضافة. لم يعد النصّ يتيماً إلى أن يُتَرجَم كما قال دريدا، بل أصبح يُتَرجَمُ فيتيتّم. باتت نُصوصُنا تتطفّل على اللغات الأخرى بحثاً عن أبٍ لم يطلبها ولا يُريدُها. ساد التكالبُ على افتعال الترجمةِ، فإذا آثارُنا تدعو نفسَها بنفسِها إلى مختلف اللغات الأجنبيّة، ولا يهمّها أن تبدو ضيفاً ثقيل الظلّ، أو أن تصل مشوّهة عرجاء عاجزةً عن الحضور اللائق بجودتها.
يتقاسم الجميعُ رغبةً عُصابيّة في العُبور إلى المُستقبل من خلال أبوابٍ نتَوَهّمُ أنّها أبواب الخلود. لكنّ الخلود حكايات أخرى وأبواب موجودة دائماً في مكان آخر. ألا يكون من حسنات جائزة نوبل للآداب هذه السنة، وهي تذهب إلى كوريّة جنوبية، أي إلى لغة لم تنتظرها كي تعبر من قرنٍ إلى آخر، ألا يكون من حسناتها تذكيرنا بأنّ للمستقبل باباً واحداً هو الإبداع؟