نازلة دار الأكابر
ليس من شكٍّ في أنّ أحبّاء الرواية العربيّة والأدب الروائيّ بشكل عامّ قد سعدوا أيّما سعادة بخبر فوز التونسية أميرة غنيم بجائزة الأدب العربي لعام 2024 عن روايتها "نازلة دار الأكابر" التي صدرت سنة 2020 (دار مسكيلياني ودار مسعى)، وحصلت على الكومار الذهبي للسنة نفسها، ثمّ بلغت القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة (بوكر) لسنة 2021، ثمّ ترجمتها الشاعرة الجزائريّة سعاد لعبيز سنة 2024 إلى الفرنسيّة، وصدرت في السنة نفسها (دار فيليب راي بالشراكة مع برزخ)، لتفوز بهذه الجائزة التي أنشأتها عام 2013 مؤسسة جان لوك لاغاردير ومعهد العالم العربي، بغاية تكريم الأعمال الأدبية العربية التي كُتبت بالفرنسيّة أو تُرجمت إليها. والحقّ أنّ ما حظيت به هذه الرواية لم يفاجئ قرّاءها الذين أجازوها على طريقتهم، وأتاحوا لها أن تبلغ الطبعة الثامنة بعد ثلاث سنوات من ظهورها.
تتابع هذه الرواية تفرّعات شجرة عائليّة (وُلِدَ أكبرُها عام 1871 وأصغرُها عام 1963)، وتروي فصولاً من التاريخ التونسي، تبدأ من أيّام مقاومة الاستعمار الفرنسي، ولا تنتهي بسنة 2011، من خلال تشابُك العلاقات بين عائلتين من عائلات "البلْديّة" (الاسم المحلّي لسكّان الحاضرة الأصليّين)، فإذا نحن نتكشّف على أسرار البورجوازية بمحافظيها ومتشدّديها وليبراليّيها وتقدّميّيها، مطلّين من وراء ذلك على جراح الكادحين المسحوقين وآهاتهم المكظومة. تاريخٌ "أثيل" كما تصفه الشخصيّة الراوية "منسوجٌ بخيوط الالتباس والظنون والأوهام، متسربل بالشكّ والكذب والنفاق، حافلٌ بالخيانات الصغيرة والاتهامات المتبادلة والمزاعم والادّعاءات، مليء بالمكائد والأحقاد والعجرفة والتخايل والتطاول، زاخر بقصص الحبّ المجهضة والأجنّة المغتالة والأسرّة السريّة..." (ص 12). وهو وصف يكاد يغني عن برنامجٍ سرديٍّ مُفَصَّل في رواية شارفت على 460 صفحة من الحكايات المتوالدة بعضها من بعض، والمتعاظلة، والمتشعّبة، من دون أي مساس بمتعة القراءة.
ولعلّ أحد أهمّ أسباب السعادة بمثل هذه الرواية، وبنجاحها في لفت الأنظار إليها وفي إسماع الأصوات التي تضرب من داخل خزّانها، أنّ الكاتبة لم تتنازل فيها عن أيٍّ من القيم الإنسانيّة أو الأدبيّة توسّلاً للنجاح. لم تصنع من حكاية العشق "الممكنة" بين لَلاَّ زبيدة والمصلح الاجتماعي الكبير الطاهر الحدّاد "طُعماً" لاقتناص القرّاء بل "تخيّلتها" على خفر وبالقدر الذي يخدم الرواية. لم تكتب حكاية المجتمع، بل كتبت هشاشة أفرادٍ من الناس. لذلك عرّت الكثير من خفايا المجتمع. لم تتورّع عن التجريب، مؤلّفة بين شهرزاد ألف ليلة والمخرج الياباني كوروزاوا صاحب فيلم "راشومون" (1950) الذي تُنسب إليه تقنية السرد التي تحمل الاسم نفسه، مسلّمةً المقود إلى المرأة خازنة الذاكرة وحاضنة المخيّلة، بانيةً روايتها على تعدّد زوايا النظر، تاركةً للقارئ أن ينظم عقد الحكايات. ذلك كله بلغة تقترب من الكلاسيكيّة من دون أن تقع فيها. تعانق الحداثة من دون أن تتصنّعها. لغة تأسرك بدقّتها وأناقتها ورقصها على الحبل السحريّ بين الفصحى والعاميّة، وقدرتها على تسمية الأشياء حتى حين تكون شديدة المحليّة. ما جعل كتّاباً عرباً كثيرين يقعون في غرام هذه الرواية وينوّهون بها، مؤكّدين أنّهم لم يجدوا صعوبة في قراءتها بمتعة فائقة، وأنّ من أسباب فتنتهم بها عدم تنصّلها من بيئتها التونسيّة. ولعلّها ذكّرت كثيرين منهم بتفاصيل مجتمعاتهم، بما فيها أحياناً من فروق مذهبيّة أو طائفيّة، لكنّ مهارة الحكي، والتمكّن من الكتابة، جعلانا أمام عمل فاتن عابر للحدود.
ولعل أهمّ ما يمكن أن نصف به هذه الرواية أنّها، على الرغم من ثرائها المضمونيّ، ليست رواية مضامين، بل هي روايةٌ لا تتألّق مضامينها إلّا من طريق فرادة لغتها وطرافة بنائها وتألُّق معمارها الفني. وهو ما يجعلنا نحيّي الشاعرة والكاتبة والمترجمة سعاد لعبيز، تحيّة خاصّة، التي أعادت تنزيل هذا العمل تنزيلاً إبداعياً في لغته الجديدة، وأتاحت لقرّائه في الفرنسيّة المتعة نفسها التي حصلت لقرائه في العربيّة وهم يقعون في فتنة "شهرزادات" تونس. عملٌ كهذا لا يمكن إلّا أن ننوّه بكلّ ترجمة تستطيع العبور به إلى الضفّة الأخرى بكامل ترسانته الفنيّة. الأعمال التي تتحمّل بفخر ومسؤوليّة ودون انغلاق، عبء انتمائها، وتستند إلى طقوس وأحاسيس وتسميات ومسمّيات شديدة الخصوصيّة، لا تنجح إلّا بفضل مترجميها، وإنّ على كلّ تنويه بمثل هذه الأعمال أن يذهب إلى المترجم أيضاً.