نقاش عن التاريخ والعنصرية
قبل أيام، كانت ابنتي، الطالبة في جامعة جورج ماسون الأميركية، تحدّثني عن كتابٍ طلب منهم أحد الأساتذة الذين يدرّسونها أن يقرأوه من أجل مناقشته. الكتاب عن جرائم الإبادة التي قام بها المستعمرون الأوروبيون البيض ضد السكان الأصليين منذ ما يوصف بـ"اكتشاف" القارّة الأميركية الشمالية عام 1497، وما تبع ذلك من عنصرية مؤسسية أميركية منذ إعلان الاستقلال والجمهورية عام 1776. تحدّثت ابنتي بكثير من الاشمئزاز عن ذلك التاريخ ومجرميه، وبكثير من التعاطف مع ضحاياه من أصحاب الأرض الأصليين والسود الذين جُلبوا مُسْتَعْبَدينَ إلى "العالم الجديد". قالت إن جميع الطلاب في تلك المادة، بمن فيهم الأميركيون البيض، يشاركونها الشعور ذاته بالعار والغضب من ذلك التاريخ وأحداثه وممارساته، غير أنها استدركت، إلا طالبة بيضاء واحدة. حسب ابنتي، لم تحاول تلك الفتاة أن تبرّر ذلك التاريخ البغيض ولا أن تدافع عنه، بل أعلنت أنها ضده، إلا أن منطقها كان: أسلافي فعلوا ذلك، فلماذا عليَّ أنا أن أعتذر نيابة عنهم؟ نحن أبناء اليوم لا الأمس، وذلك تاريخ قد مضى وانقضى! تقول ابنتي إن جميع الطلبة الآخرين، من كل الخلفيات الدينية والعرقية، استشاطوا غضباً من تلك الفتاة، وكانت تتحدّث عنها باستياء واضح.
هناك تنامٍ لحركات العدالة الاجتماعية بشكل عام، وأيضاً، هم ليسوا أسارى الإعلام المؤسسي التقليدي السائد
كنت أستمع إلى ابنتي، وأنا في غاية التعجب من مفارقات القدر، إذ جرى هذا النقاش خلال زيارة قصيرة لها لي في المكتب، وكنت حينها أعد ورقة لمؤتمر أكاديمي أشارك فيه عن خلفيات التحول الجاري في الرأي العام العالمي الشعبي، وتحديداً في الولايات المتحدة، تجاه القضية الفلسطينية. وبعيداً عن الاستغراق في التفاصيل هنا، فإن واحداً من تفسيرات التغيير الحاصل أميركياً، ورأينا تجلياته خلال العدوان الإسرائيلي في الربيع الماضي، على قطاع غزة، والمحاولات الإسرائيلية المستمرة لتشريد سكان حيِّ الشيخ جرّاح شرقيّ مدينة القدس، مردّه "جيل زد" (Generation Z)، وهم مواليد ما بين 1997-2012. تظهر استطلاعات الرأي أنه على عكس جيلي أجدادهم وآبائهم، أي جيل مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية (1946 - 1964)، وجيل إكس (1965 - 1980)، فإن "جيل زد" أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين منه مع الإسرائيليين. أما الأسباب، فهي كثيرة هنا. فمن ناحيةٍ، هناك تنامٍ لحركات العدالة الاجتماعية بشكل عام، وأيضاً، هم ليسوا أسارى الإعلام المؤسسي التقليدي السائد الذي يميل، في غالب الأحيان، إلى الانحياز والتواطؤ لمصلحة إسرائيل. يعتمد هذا الجيل الشاب، بالدرجة الأولى، مصدراً لمعلوماته، على وسائل التواصل الاجتماعي بأسمائها المختلفة، ومن ثمَّ فإنهم متابعون لحظة بلحظة الأحداث، كما هي، من مكان حدوثها، ومباشرةً من دون تدخل مقصّ الرقيب أو أدوات تزييفه، وذلك على الرغم من كل محاولات مواقع التواصل الاجتماعي لتقييد المحتوى المؤيد للفلسطينيين.
كارثة إسرائيل الأكبر أن استطلاعات الرأي المعتبرة تكشف أن الشباب اليهودي الأميركي لا يشذّ في مقاربته لها عن الجيل الذي ينتمي إليه
وهكذا، وجدت إسرائيل واعتذاريوها أنفسهم فجأة أمام واقع تداعي تلك الصورة الانطباعية التي اختلقتها عن نفسها، أنها، واليهود عموماً، ضحية دائمة للعدوان، بدءاً من كراهية اليهود في أوروبا، مروراً بالهولوكوست (وهما أمران بغيضان حدثا فعلاً في التاريخ)، ثمَّ تصدي إسرائيل "البطولي" المزعوم للعدوان الفلسطيني والعربي عليها، منذ عام 1948، مروراً بحربيْ 1967 و1973. هذه الصورة الانطباعية المختلقة، في شقها الفلسطيني/ العربي، بنت إطاراً معرفياً عن إسرائيل بأنها داوود، ذلك الفتى اليهودي اليافع الضعيف، الذي يهزم جالوت الكنعاني العربي الجبار المعتدي. لكن الأجيال الأكثر شبابية، خصوصاً "جيل زد"، لا يتفق مع جيل آبائهم، وبشكل أكبر مع جيل أجدادهم، في هذه النظرة، ذلك أنهم لا يرون داوود اليهودي المستضعف، وجالوت الفلسطيني/ العربي الجبار. على العكس، هم يشاهدون مباشرة داوود الفلسطيني المستضعف يقف بصدر عارٍ، وفي يديه حجارة أمام دبابات جالوت اليهودي ومدرّعاته. إسرائيل اليوم دولة ثرية، متقدّمة، نووية، ولديها قدرات عسكرية تضاهي قدرات محيطها العربي مجتمعاً. أيضاً، لم تعد صورة اليهودي، ذلك المستضعف والمستهدف، ويعاني تمييزاً دينياً في أوروبا الكارهة لهم حاضرةً اليوم، إذ حلّت محلها صورة الفلسطيني المضطهد، ويعاني تحت حكم أبارتهايد تفرضه إسرائيل عليهم باسم اليهودية ومظلومية اليهود التاريخية. كارثة إسرائيل الأكبر أن استطلاعات الرأي المعتبرة تكشف أن الشباب اليهودي الأميركي لا يشذّ في مقاربته لها عن الجيل الذي ينتمي إليه.
نشرح، نحن الناشطين في العمل لفلسطين، بعض خلفيات معاناة الفلسطينيين للرأي العام بمقاربة ذلك بما حدث من إبادة للسكان الأصليين في أميركا
قدّمت هذه الخلفية لابنتي في سياق نقاشنا، ثمَّ طلبت منها أن تطلع على ما يصفه بعض علماء الاجتماع بـ"بناء الأطر المعرفية" (The Construction of Cognitive Frames)، وكذلك "تجسير الإطار" (Frame Bridging)، واللتان تتوخيان تأطير عقد المقارنات بين التجارب المختلفة للجماعات والشعوب في تاريخها وحاضرها لتقريب معنى (ومرارة) المعاناة التي يعيشها طرف ما لأطراف أخرى. مثلاً، نشرح، نحن الناشطين في العمل لفلسطين في الولايات المتحدة، بعض خلفيات معاناة الفلسطينيين للرأي العام بمقاربة ذلك بما حدث من إبادة للسكان الأصليين في أميركا، ومحاولة محو تاريخهم وشيطنتهم. أيضاً، عندما نتحدّث عن الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي، فإننا نتحدّث عن تجربة السود في أميركا تحت وطأة مؤسسة التمييز والفصل العنصري قروناً (ما زال كثير من تعبيراتها مستمرة)، وهكذا. عقد مثل هذه المقارنات جزء من استراتيجية واسعة وواعية لفضح الوجه الحقيقي للأبارتهايد الإسرائيلي وتبيان المظلومية الفلسطينية.
عدت إلى موضوع الفتاة البيضاء التي أغضبت ابنتي وزملائها بجدالها في ضرورة دفن الماضي وتجاوزه. قلت لها إنّ هذا متوقع، فليس كل الناس يملكون الجرأة على الإقرار بالخطأ، سواء أكانوا هم من ارتكبوه أم أسلافهم. مثلاً، ما زالت فرنسا تكابر بصلفٍ في الاعتراف بجرائم الإبادة التي ارتكبتها بحق الجزائريين. تفعل ذلك وهي تدّعي علواً أخلاقياً! لكن، أكملت مع ابنتي، الحاضر هو نتاج الماضي إلى حد كبير، والمستقبل سيكون نتاج الحاضر أيضاً، إلى حد كبير. بمعنى أن جرائم الحروب الوحشية التي ترتكبها الولايات المتحدة، كتبرير قصف مدنيين وقتلهم أخيراً في أفغانستان وسورية، أو الاستمرار في التمييز العنصري ضد السود واللاتينيين والآسيويين والمسلمين، إلخ، ما كانت لتكون لولا التاريخ الأميركي الأسود الذي يحاول بعضهم أن يُبَيِّضَ صفحاته عبر التلفيق فيه وحوله، أو عبر ادّعاء أنه مضى وانقضى.
لو كنا نعيش في دولة عربية، أكنا سنستطيع أن نخوض مثل هذا النقاش عن تاريخها وحاضرها؟
في أميركا اليوم تياران، واحد يصرّ على الاعتراف بالماضي وأخطائه وجرائمه، والاعتذار عنها، ومحاولة تصويبها، وثانٍ يرى في ذلك تعدّياً وتشويهاً لا يمكن السكوت عنهما. ورأينا كيف أنه في خضمّ مظاهرات "حياة السود مهمة" العام الماضي، خلال رئاسة دونالد ترامب، كان هناك إسقاط لكثير من تماثيل رموز حقبة التأسيس الأميركي، بمن فيهم، المزعوم زوراً أنه "مكتشف" القارّة، كريستوفر كولومبس، ومن جاء وراءه من رموز الحرب الأهلية من العنصريين. وقد نجح هذا التيار، الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) في الضغط على الرئيس، جو بايدن، لتغيير اسم "يوم كولومبس"، الذي كان يحتفي فيه الأميركيون، كل عام، بـ"اكتشاف" القارّة في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، إلى "يوم السكان الأصليين" الذين كانوا ضحايا ذلك "الاكتشاف" الأوروبي الكولونيالي.
على أي حال، أنهيت أنا وابنتي النقاش المقتضب في الموضوع، ثمَّ لاحت جملة أسئلة في ذهني: تُرى، لو كنا نعيش في دولة عربية، أكنا سنستطيع أن نخوض مثل هذا النقاش عن تاريخها وحاضرها؟ أصلاً، هل كان هناك أستاذ جامعي عربي سيجرؤ على أن يطلب من طلبته أن يقرأوا كتاباً ناقداً لتاريخ البلد التي يُدَرِّسُ فيها؟ بل، هل كانت طالبة في تخصص الأمن السيبراني ستأخذ مادة تناقش التاريخ بهذا العمق النقدي؟ صحوت للتو من استذكاري ذلك النقاش، فأنا الآن في زيارة لبلد عربي، وعندي "زيارة قَصْرِيَّةٌ" بعد بضع ساعات لـ"سدنة الوصاية على الأفكار"!