نعدّ الليالي والليالي تعدّنا

05 يناير 2023
+ الخط -

وداعا لعام 2022، ومرحبا بعام 2023، مع خالص أمنياتي للجميع بتحقيقي ما لم يتحقّق من أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم التي عبرت معهم رحلة الزمن إلى السنة الجديدة.

حاولتُ تجاهل بداية العام الجديد، في إطار محاولاتٍ مستمرّة مني، بدأتها في السنوات الأخيرة لتجاهل مرور الزمن، واعتبار أننا نعيش في زمنٍ لامتناهٍ فلا معنى في هذه الحالة لحساباتٍ دقيقةٍ له، وبما يؤثر على حياتنا كلها .. وفشلت.

حسنا، هو فشلٌ معتاد، لكنه لحسن الحظ لم ينجح في إقناعي بالإقلاع عن المحاولات وتكرارها كل عام .. ومن يدري؟ لعلي أنجح يوما ما في العيش خارج الزمن كله. وألاحظ الآن أنني استخدمت مفردة "يوماً" حتى في سياق الأماني بمفارقة تأثير الزمن ومفرداته وتفاصيله.

الصخب القوي وشديد الدويّ الذي يأتي به العام الجديد عادة أقوى من أن نتجاهله، وأشدّ دوّيا من ألا نسمعه، وأكثر تأثيرا من ألا ننخرط في فعالياته دقّت أم عظمت. فحتى في البلاد التي تتجاهل صناعة الحفاوة بتوديع العام المنصرم، واستقبال العام الجديد باحتفالات صاخبةٍ وحفلاتٍ متنوّعةٍ لا يمكن غضّ النظر عن تبديل التواريخ وتغيير التقاويم السنوية في الأوراق والمواعيد على الأقل.

هكذا هي الحياة التي يُراد لنا أن نعيشها في سياقٍ مرسومٍ سلفا، ما دمنا ارتضينا العيش في مجموعةٍ من الناس تحت أي مسمّى. لا بد، إذن، من الخضوع لاشتراطات الزمن كما هو مرسومٌ أمامنا في كل شيء تقريبا. تقاويم تذهب أوراقها تدريجيا أمام أعيننا بتواريخ عشناها، وأيام وأسابيع وشهور مرّت علينا في كل واحدةٍ لنا منها ذكرى أو أكثر. وربما لهذا يحلو للناس أن تخضع حياتهم لعداد الأيام والليالي. بها نقيس الأعمار ونحدّد البدايات بانتظار النهايات، ونجدول الأحداث ونضع المواعيد، وننظّم كل ما نعيشه، بقصد أم بغير قصد وفقا لهذه المواعيد المسبقة.

أرقام وتواريخ تمرّ بنا، أم تُرانا نمرّ بها، وهي الثابتة؟ لكننا، في كل الأحوال، لا يمكننا تجاوزها ولا تخطّيها، ولا حتى تجاهلها حتى لو أردنا ذلك أو أقنعنا أنفسنا أننا فعلنا. والأمر أكبر بكثير من مجرّد احتفالٍ صاخب بعامٍ جديد تشرق شمسُه علينا نحن البشر، كما تشرق كل صباح وفي كل تاريخ، وأعمق بكثيرٍ من مجرّد تعاقب الليل والنهار في المجموعة الشمسية. إنه نظام حياةٍ كاملٍ يخضع له الكائن البشري رغما عنه، حتى وإن أقنع نفسه بعكس ذلك.

في كل تاريخ جديد لنا موعد أو مواعيد مع الحياة بكل دقائقها، ومع البشر حولنا، ولهذا اخترع الإنسان النظام وسار عليه، وإن كان يشذّ عنه أحيانا باستثناءاتٍ تؤكّد القواعد الثابتة في علاقة البشر بالزمن، في تعاقبات مستمرّة ما بين الليل والنهار، بلا جديد حقيقي رغم توهمنا أحيانا.

صحيحٌ أن البشر انشغلوا دائما بظاهرة الزمن، وحاولوا في إطار ذلك الانشغال وتعبيرا عنه أن يفسّروا ما يحدُث للعالم كله. وبالتالي لهم، ما بين الليل والنهار أولا ثم ما بين عام إثر عام، إلا أنهم دائما، في المعنى الوجودي للحياة، فشلوا. ذلك أنهم كانوا دائما جزءا مما يحدُث، وبالتالي لا يمكن أن يفهم ذلك الجزء الصغير أو الجرم الذي "انطوى فيه العالم الأكبر" بقية العالم إلا كما يتوهم، وهذا هو المعنى الذي أوجزه الشاعر راشد الخلاوي، المتوفّى سنة 1654 في الجزيرة العربية، ببيتيه:

"الأيام ما بقى بها كثر ما مضى/ والأعمار ما اللي فات منها بعايدْ

نعدّ الليالي والليالي تعدّنا/ الأعمار تفنى والليالي بزايد"

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.